اثارت حملة الانتسابات لحزب "العمل"، التي انتهت في الاسبوع الماضي، قلقا مجددا، بشكل محدود، في اوساط القوى الوطنية الفلسطينية في داخل اسرائيل، بعد ان اعلن بداية ان عدد المنتسبين العرب لهذا الحزب الصهيوني، الذي قاد غالبية حروب اسرائيل، حوالي 15 الفا، وفي اليوم التالي جرى الحديث عن ما بين 25 الفا الى 30 الف منتسب عربي، من اصل 130 الف منتسب بضمنهم اليهود.
وهذا يعني ان نسبة المنتسبين العرب الى حزب "العمل" يشكلون 25% من مجمل المنتسبين، في حين ان نسبتهم بين مجمل السكان في اسرائيل 18% (من دون القدس وهضبة الجولان المحتلتين)، وهي نسبة اكثر بثمانية اضعاف من نسبة المصوتين العرب لحزب "العمل" من مجمل المصوتين لهذا الحزب في الانتخابات البرلمانية الاخيرة، التي جرت في مطلع العام 2003، إذ حصل "العمل" على 14 الف صوت عربي من اصل 455 الف مصوت لهذا الحزب، كما ان نسبة المصوتين لحزب "العمل" من مجمل العرب الذين شاركوا في التصويت في تلك الانتخابات كانت أكثر بقليل من 4%.
وبعد يومين من الاعلان عن احصائيات المنتسبين للحزب بدأت تصدر انباء متوقعة، حول عمليات التزوير في حملة الانتسابات تلك، وبطبيعة الحال فإن الانظار تركزت على المنتسبين العرب، ومن ثم على بلدات واحياء الفقر اليهودية، وبشكل خاص بين صفوف ابناء المجموعات اليهودية المهاجرة من الشرق.
وللتوضيح هنا نذكر ان هذه الانتسابات هي على الطريقة المتبعة في الاحزاب الامريكية، وتتبّعها الاحزاب الاسرائيلية الكبرى منذ نحو 13 عاما، بمعنى انه ليس من الضروري ان يكون المنتسب قد انتسب على اساس ايديولوجي، أو قناعة سياسية، وانما فقط من اجل ان يشتري الحق في المشاركة في الانتخابات الداخلية لهذا الحزب أو ذاك، إما على رئاسة الحزب، كما يجري الآن في حزب "العمل"، أو لتشكيل القائمة الانتخابية للحزب في الانتخابات البرلمانية او المحلية، ويحدث ان الكثير من المنتسبين لا يصوتون "لحزبهم" في الانتخابات العامة، بل يصوتوا لأحزاب أخرى، او انهم لا يشاركون في التصويت اصلا.
لمحة تاريخية
منذ بدايات اسرائيل تعاملت الاحزاب الصهيونية مع العرب الفلسطينيين الباقين في وطنهم (فلسطينيي 48)، كمجتمع حمائلي عشائري فقير، جلّ همه البحث عن مصادر الرزق والوظائف، وكلما زاد الفقر والبؤس، احتد هذا التوجه أكثر، كذلك الأمر فإن تلك الأحزاب، وبشكل اساسي حزب "مباي"، الذي اصبح اسمه لاحقا لسنوات طويلة "المعراخ"، ومن ثم "العمل"، استغل تفرّده بالحكم من جهة، وفرضه للحكم العسكري حتى منتصف سنوات الستين من القرن الماضي من جهة أخرى، ليفرض اجواء ترهيب وتخويف لمنع العرب من التصويت للقوى الوطنية المشاركة في الانتخابات البرلمانية، التي كانت تتركز منذ العام 1948 وحتى اوائل الثمانين من القرن الماضي في الحزب الشيوعي ومن ثم الجبهة الديمقراطية فقط، إذا كانت حركات وطنية فلسطينية صغيرة أخرى لم تشارك في الانتخابات البرلمانية.
وحتى اوائل سنوات السبعين كان حزب "مباي" بالاساس، وبعض الاحزاب الصهيونية الصغيرة، تجرف ما بين 80% وحتى 70% من اصوات العرب، إذ كانت هذه النسبة تتراجع سنويا مع تقدم السنوات، وكانت هذه الاصوات تصل الى هذا الحزب من قناتين، الأولى مباشرة للحزب نفسه، والثانية من خلال قوائم انتخابية "عربية"، هي بالاساس قوائم تابعة بشكل مطلق لهذا الحزب الصهيوني.
وفي منتصف العام 1975 جرى تحول كبير بين العرب، كان ثمرة تحركات مركزّة في العامين اللذين سبقاه، ففي نهاية ذلك العام نجحت القوى الوطنية برئاسة الشاعر الفلسطيني الكبير توفيق زياد في الفوز برئاسة بلدية مدينة الناصرة، اكبر مدينة فلسطينية في اسرائيل، بعد ان كان يحتل ادارة البلدية عرب الأحزاب الصهيونية، ومهّد هذا الانتصار للاجواء التي سبقت الاعلان عن يوم الارض الخالد بأربعة شهور، أي في آذار (مارس) العام 1976، وفي الانتخابات التي جرت في العام 1977 تلقت الاحزاب الصهيونية بين العرب ضربة صعبة نسبيا، حين هبطت نسبة التصويت لها ولقوائمها "العربية" الى 50%، وهذا التحول الكبير كان بداية لانهيار متواصل في نسبة المصوتين للاحزاب الصهيونية، الى ان تراجعت منذ العام 1996، وحتى اليوم الى حوالي 10% فقط، ونجد في عدد من القرى والمدن العربية ان هذه النسبة اقرب الى الصفر، ولكنها ترتفع كثيرا في قطاع معين.
لقد رسّخ حزب المعراخ (او بتسمياته مباي والعمل) بين اوساط العرب اجواء الانتهازية والتبعية، واستغل هذا الحزب سيطرته على الحكم، وعلى اتحاد النقابات، "الهستدروت"، والشركات الاقتصادية والمؤسسات المختلفة مثل بنك "هبوعليم"، التابعة للهستدروت، والعمل في القرى الزراعية التعاونية، "الكيبوتسات"، التابعة لهذا الحزب، ليفرض على الغالبية الساحقة ممن عملوا في هذه المؤسسات الانتساب للحزب، وكان هذا شرطا للحصول على وظيفة.
وبعث "المعراخ" عملاءه، وأولئك الذين اصطلح على تسميتهم "مقاولي ألاصوات"، وكان الاعلان عن وظائف جديدة ملازم لأي انتخابات عامة، إن كانت برلمانية، او محلية أو نقابية، لتبدأ عمليات الضغط والابتزاز.
واقع الحال
في العقود الثلاثة الأخيرة، وكما ذكر، جرى تراجع كبير في هذا النهج، وكانت انطلاقته الأولى في العام 1977، عند تشكل الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وكانت القفزة الثانية في منتصف سنوات التسعين، بعد اتفاقيات اوسلو وحكومة يتسحاق رابين.
وبدانا في هذه الأيام نسمع عن نغمة أوهام جديدة صادرة عن "قدامى" حزب "العمل" العرب، الذين يتوهمون ان العجلة بدأت تعود الى الوراء بالنسبة لحزب "العمل"، وانه مقبل على جرف جديد في الشارع الفلسطيني، بداية يجب ان نلفت نظر هؤلاء الى فضيحة التزييفات التي اعلن حزب "العمل"، وبشكل خاص في حملة الانتسابات بين العرب، واستأجر الحزب خدمات شركتي تحقيق، وعشرة خبراء خط للكشف عن عمليات التزوير هذه، وذكرت صحيفة "معاريف" الاسرائيلية، انه في كشف اولي لثلاثة آلاف منتسب عربي، هناك شكوك في توزير ما بين 1500 الى 2000 منتسب.
بمعنى ان هؤلاء لم ينتسبوا بشكل مباشر، وانما هناك من عبأ النموذج ودفع الرسوم عنهم، بمعرفتهم، وحتى من دون معرفتهم.
ويسأل السؤال، ما هي مصلحة الحزب في الكشف عن هذه الفضيحة؟، عمليا فإن المبادرين للكشف عن هذه الفضيحة ليس الحزب نفسه كسياسة عامة، وانما هذا نتاج لحزب معسكرات المتنافسين على زعامة الحزب، فكل معسكر جند آلاف المنتسبين على أمل ان يحظى باصواتهم، ومهمة كل معسكر ان يكشف فضائح المعسكر الخصم. ونستفيد من صراع الديكة هذا بأنهم "خففوا علينا" مهمة الكشف عن الوجه القبيح لهذا الحزب، ولبعض اتباعه.
إن من يعيش اليوم في الشارع الفلسطيني، داخل اسرائيل، سيلمس ان التنافس الاساس في هذا الشارع هو بين القوى الوطنية على مختلف توجهاتها، أما الأحزاب الصهيونية فإنها ليست ملموسة، وحتى في خضم المعارك الانتخابية فإنه باستثناء بعض المأجورين للاحزاب الصهيونية الذين يتحركون بكثافة، فإن الذين قرروا التصويت لهذه الأحزاب يفعلون ذلك سرا، وحتى انهم ينكرون هذا عندما يُسألون، خلافا لعهود سابقة.