*هناك من يتوهم بأن شارون سيتجه حينها نحو اليمين أكثر، ولكن شارون لم يخرج من دائرة اليمين المتشدد ليعود اليها*
مع اقتراب موعد تنفيذ خطة اخلاء مستوطنات قطاع غزة، واربع مستوطنات صغيرة في شمال الضفة الغربية، بدء في اسرائيل بطرح سؤال حول "أي اريئيل شارون سنرى، بعد ان ينتهي من تنفيذ خطته، وكالمعتاد فإن الاجابة على سؤال كهذا يتحول الى نوع من "المراهنات" السياسية، ويتسابق المحللون في تحليلاتهم للرد على هذا السؤال، ولكن غالبيتهم تميل الى استخدام عبارة ان "شارون سيتجه يمينا أكثر"، وهو استنتاج أقرب الى الواقع، على الرغم من انه فيه نوع من التضليل، إذا يراد منه بث اوهام وكأن شارون الآن هو في معسكر "المعتدلين"، وهناك من يتوهم ان "شارون اليوم ليس شارون الأمس"، وفي هذا خطورة أكبر.
قبل ابداء أي رأي في الرد على سؤال "شارون المستقبل"، هناك حاجة للانتباه الى المنطلقات والأسس التي ارتكز عليها شارون في وضعه لخطته، المسماة "خطة الفصل"، وكما ذكر هنا، في مجلة "الطريق" مرارا، ان منطلقاته كانت ولا زالت يمينية، طمح من خلالها الاستغناء عن القليل جدا، من أجل الاحتفاظ بما هو أكبر في الضفة الغربية المحتلة.
في الأيام الأخيرة وزعت حركة السلام الآن خريطة للضفة الغربية توضح ما كان يحلم به شارون في العام 1981، وفي نظرة سريعة، ولا تحتاج لأكثر منها، ستعرف ان ما ينفذه شارون اليوم هو تطبيقا لتلك الخطة، وبشكل خاص في الضفة الغربية، فمثلا حين سئل شارون الآن، لماذا اختار المستوطنات الاربع الصغيرة في وسط شمال الضفة الغربية، اجاب قائلا إنها "مستوطنات صغيرة ونائية"، ولكن الاجابة الصحيحة نجدها في تلك الخارطة.
فحسب خطة شارون منذ 198، فإنه "على استعداد" لأن تخلي اسرائيل خمس أو ست جيوب صغيرة في الضفة الغربية، الجيب الأول يمتد من جنين ونابلس بمقطع طولي ضيق، والجيب الثاني لمدينة رام الله وبعض ضواحيها، والثالث جيب بيت لحم والبلدات الصغيرة من حولها، وجيب شبيه لمدينة الخليل وآخر لاريحا، والأخير لقلقيلية وطولكرم. وطبعا من دون أي اتصال أو تواصل بين هذه الجيوب، أما بخصوص قطاع غزة فإنه كان يريد اخلاء معظمه إن لم يكن كله.
ولهذا فإن المستوطنات الاربع الصغيرة هي تلك الواقعة بين جنين ونابلس، ضمن الجيب الذي يحلم به شارون، خاصة وانه في شمال الضفة هناك مستوطنات أكثر، خاصة التكتل الاستيطاني في غرب شمال الضفة الغربية.
اضف الى هذا فإن شارون وحتى انتخابه، كان يقول انه على استعداد لاخلاء 42% من مساحة الضفة الغربية فقط، وبنظر شارون فإن الـ 100% من الضفة الغربية لا تشمل مدينة القدس المحتلة وضواحيها، التي تشكل حوالي 20%، ولهذا فإن مخطط شارون، عمليا، هو اخلاء 33% من الضفة الغربية حسب حدود 1967. وما يؤكد كل هذا هو سلسلة الانباء التي ترد يوميا حول المخططات الاستيطانية للحكومة الاسرائيلية برئاسة شارون في الضفة الغربية.
ولهذا فإن شارون هو اليوم في موقع اليمين، واليمين المتشدد والأخطر، ولم يتزحزح من هذا الموقع في أي يوم من حياته، ولديه برنامج واضح للسيطرة الفعلية الكاملة على الضفة الغربية، أما مقولة انه سيتجه بعد تنفيذ خطته الى اليمين، فهي مقولة خاطئة واستنتاج مضلل.
أجندة شارون
ولكن من جهة أخرى فإن لشارون أجندة واضحة لليوم الذي سيلي الانتهاء من تنفيذ خطته، وببساطة ليس لديه ما يقدمه في اتجاه الحل الواقعي، وهو يعلم ان كل ما لديه ليقدمه للفلسطينيين لا يمكن لأي فلسطيني، ايا كان، ان يقبل به، ولهذا فإنه يكثف عمله في اتجاهين، الاتجاه الأول فرض أكثر ما يمكن من حقائق على الأرض، من خلال الاسراع في انجاز بناء جدار الفصل العنصري، الذي حتى وزراء في حكومته يؤكدون ان مسار الجدار انما يعبر عن الحدود التي يريدها شارون في الحل الدائم، وتكثيف الاستيطان في نقاط مركزية تخدم مخططه، أما الاتجاه الثاني فهو ضمان عدم تسليط أي ضغوط دولية عليه لتقديم المزيد بعد انهاء الخطة.
ومن اجل ضمان الاتجاه الثاني، أي صد الضغوط، فإنه يعمل في عدة مسارات، أولها انه يريد مظلة امريكية متينة تمنع أي ضغوط عليه تأتي من جهة أوروبا بالذات، والمسار الثاني هو محاولة لتوجيه السهام ضد القيادة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، بادعاء انها لم تف بالتزاماتها، و"لم تحارب الارهاب"!!، وكان شارون قد حاول مثل هذا الأمر قبل حوالي ثلاثة اشهر، عند عملية معبر القنطار، التي وقعت في اواخر شهر كانون الثاني، ثم عاد الكرّة من جديد، في الاسابيع القليلة الاخيرة، وقد توجه الى واشنطن حاملا ملفا بهذا الخصوص، ولكنه هناك لم يحصل على ما أراد، ليس لأن الادارة الامريكية غيّرت جلدها، وانما لأن ادارة بوش لا تستطيع فتح معركة جديدة على القيادة الفلسطينية وتصطدم من جديد مع اوروبا، خاصة في ظل ازدياد الغوص في الوحل العراقي.
أما المسار الثالث فهو مسار تأجيل خطة الفصل، وهو قرار ستتخذه حكومة شارون في هذه الايام، فعلى الرغم من ان الحديث يجري عن ثلاثة اسابيع فقط، بادعاء ان الموعد الاصلي يتزامن مع فترة حداد لليهود المتدينين على حصار القدس وخراب الهيكل قبل الفي عام!، إلا أنها ليست مجرد ثلاثة اسابيع، فالموعد الجديد لتنفيذ عملية الاخلاء، مع ما يتوقع لها من عراقيل وصدامات مع المعارضين المتطرفين، وحاجة ما بين ست الى ثماني اسابيع لاتمام الاخلاء، يخرق موعدين "هامين" في نظر حكومة شارون، الأول هو افتتاح السنة الدراسية، والموعد الثاني هو الاسبوع الأول من شهر ايلول، حين يبدأ شهر ايلول العبري، آخر أشهر السنة العبرية، وقبل بدء اهم الاعياد اليهودية، وتكثر فيه صلوات "الغفران والرحمة"، وسيعارض المتدينون "المس بمشاعرهم" في هذا الشهر "الحساس".
ولهذا فإن التأجيل لثلاثة اسابيع سيتبعه تأجيل وقد تكون تأجيلات، ولكن في نهاية الأمر فإن شارون سينفذ، ولكن موعد انتهاء التنفيذ، وعلى الأغلب بعد شهر تشرين الأول، سيكون افتتاحا للمعركة الانتخابية البرلمانية التي ستجري، لا محالة، قبل موعدها القانوني في خريف العام 2006.
وكما اعتادت حكومات اسرائيل المتعاقبة، فعند بدء الحديث عن انتخابات برلمانية فإنها تطلب وقف كل مفاوضات او اتصالات الى حين الانتخابات، ومن ثم تشكيل الحكومة، واعطاء الحكومة الجديدة مهلة التأقلم، وهذا حديث عن عدة شهور. ولكن إذا توقفت المفاوضات والاتصالات، فإن جرافات الاحتلال والاستيطان لا تتوقف وستستمر.
سيناريو التفجير
الى جانب كل ما سبق فإن اسرائيل السياسية والأمنية تحلم بمخرج سريع يخرجها من ورطة الرد على سؤال "وماذا بعد"، وبنظرها فإن المخرج السريع يكمن في اعادة تفجر الاوضاع الامنية، ويجب الانتباه جدا الى أن اسرائيل السياسية والعسكرية تحلم بهذا الانفجار، لا بل انها تروج له بكثافة، ومن يتابع الصحافة الاسرائيلية في الاسابيع القليلة الماضية وايضا في هذه الايام، فإنه سيقرأ الكثير من "تقارير" الاجهزة الامنية الاسرائيلية التي تتحدث عن ازدياد "تهريب الاسلحة" ليس الى قطاع غزة، وانما الآن بالاساس الى الضفة الغربية المحتلة.
ويكثر في هذه "التقارير" استخدام الارقام المضخمة، ويصعب على من يعرف مدى الاجراءات الامنية المشددة في اسرائيل ان يصدقها، فمثلا حين تقول صحيفة "معاريف"، ان اجهزة الأمن الاسرائيلية ضبطت قبل اكثر من اسبوع رزمة فيها 57 رشاش كلاشينكوف، و"الاعتقاد السائد ان هذا نقطة من بحر من الاسلحة التي تنقل يوميا الى الضفة الغربية"، وفي مكان آخر في الصحيفة قيل ان هذه الكمية هي 10% مما تم تهريبه خلال اسبوع، بمعنى انه في اسبوع واحد تسرب الى الضفة الغربية اكثر من 550 رشاش كلاشينكوف، هذا عدا عن الذخيرة والمواد المتفجرة!!.
لقد اعتادت اسرائيل دائما على تضخيم كل شيء في الساحة الفلسطينية، من حيث حجم المقاومة التي تواجهها، وكميات الاسلحة وغيرها، وكل هذا من اجل تبرير جرائمها، وللأسف ومن باب النوايا والمشاعر الوطنية وحماسة الشباب الزائدة، كنا نشهد من يكمل مشاهد المبالغة الاسرائيلية في الشارع الفلسطيني وطبعا من دون علم ان هذه المبالغات تخدم الاحتلال في مخططاته.
ومن باب ابداء الرأي لا أكثر، لمن لا يعيش يوميا في شوارع الضفة والقطاع، فإن التهدئة ورطّت اسرائيل الرسمية، واستمرارها سيورطها أكثر، لأنها ستفسح المجال امام تحرك فلسطيني أسرع على الساحة الدولية، وفي الوقت نفسه تسحب البساط من تحت ارجل المعتدي اسرائيل.