اختتمت اسرائيل الشهر الماضي حزيران/ يونيو بثلاثة ايام عاصفة، اختار المراقبون اعتبرها على انها من التمرينات الأخيرة بين الأجهزة الأمنية الاسرائيلية والقوى اليمينية الاسرائيلية المتطرفة، قبل المسرحية الاساسية، التي سنشهدها في منتصف الشهر القادم آب/ اغسطس، لدى بدء اسرائيل باخلاء مستوطناتها في قطاع غزة، والمستوطنات الصغيرة الاربع في شمال الضفة الغربية.
وبدت اسرائيل في ساعات معينة وكأنها "عاجزة" عن وضع حد للفوضى، فيكفي ان يقرر عشرون شابا من الحركات اليمينية الارهابية ليغلقوا شريانا رئيسيا في المواصلات بين المدن الاسرائيلية الكبرى، ويخلقون حالة من الاختناقات المرورية التي تدوم لساعات، وكل هذا في اطار ما يسمى "احتجاج قوى اليمين على اخلاء المستوطنات".
ولكن من وراء الضجة الاعلامية التي تجندت لها كبرى الفضائيات العالمية بالبث الحي والمباشر، تكشّف أكثر فأكثر تلاقي المصالح بين رئيس الحكومة الاسرائيلية، اريئيل شارون، وما يمثله من توجه سياسي، وبين المستوطنين الذين باتوا يستعدون للاخلاء، وكلا الجهتين تخرجان رابحة من هذه "الفوضى الأمنية" المعلنة، فشارون يُشغل الرأي العام العالمي ومواطن القرار في الاسرة الدولية بـ "أزمته الداخلية"، والمستوطنون يضغطون اكثر لكسب أكثر ما يمكن من "غنائم" في "صفقة العمر"، المتمثلة بالتعويضات المالية التي تدفعها الحكومة لهم.
مكسب شارون
كنا قد عالجنا في عدد سابق من مجلة الطريق اجندة شارون لما بعد خطة فك الارتباط، التي ليس فيها سوى المزيد من الاستيطان في الضفة الغربية والقدس وهضبة الجولان السورية المحتلة، ولكن في نفس الوقت فإن شارون متنبها منذ ان بدأ يفكر في خطته هذه، الى انه بعد ان ينهي تنفيذها سيسأله العالم "وماذا بعد؟".
لقد أجاب كبير مستشاري شارون، المحامي دوف فايسغلاس، في مقابلة صحفية سابقة، بوضوح عن هذا السؤال، وقال "حينما يصبح الفلسطينيون فنلنديين، فربما حينها سنتحاور معهم حول الحل الدائم"، وطبعا فإن العالم والشعب الفلسطيني لا يسيران وفق أجندة شارون وفايسغلاس، ولهذا على شارون خلق الذريعة التي تبعد عنه الضغوط لأكثر ما يمكن وقت.
لقد وجد شارون ان أحد مخارجه من "ورطته" المحتملة أمام العالم، يكمن في "أزمته الداخلية"، فبداية، وكما نذكر، اشغل شارون العالم وأوقف على أرجله، حينما كانت حكومته تواجه خطر السقوط، وحتى ان جهات دولية وعربية تدخلت لدى احزاب في اسرائيل لانقاذ حكومة شارون، وحديث كهذا جرى مع حزبي "العمل" و"شاس"، ولكن بعد ان استقرت حكومته اصبح يعتمد أكثر على نشاط اليمين المتطرف.
وفي اعتقاد شارون انه كلما زاد الضغط في الشارع، ضمن سيطرة عليا غير مرئية، فإن هذا يخلق تعاطفا دوليا معه، وسيتفهم العالم انه ليس بالامكان في "المرحلة الراهنة" الضغط أكثر على شارون، فاستقرار اسرائيل هو ايضا مصلحة دولية، وبالنسبة لشارون فإن المرحلة الراهنة هي حالة دائمة لا يريدها ان تنتهي.
إن ما نراه ميدانيا في تعامل "الاجهزة الأمنية الاسرائيلية مع المتطرفين من اليمين الذين يعتدون على النظام العام وسير الحياة العامة، وحتى على عناصر الاجهزة الأمنية انما يعزز أكثر فأكثر الاعتقاد بان شارون معني بنشاط اليمين، فعلى سبيل المثال، اعلن شارون في جلسة الطاقم الوزاري للشؤون الأمنية، ظهر يوم الاربعاء التاسع والعشرين من الشهر الماضي، انه اصدر تعليماته للشرطة الاسرائيلية للتعامل بحزم شديد مع المتطرفين الذي خططوا لاغلاق شوارع في مساء اليوم نفسه، وعندما بدأ المتطرفون بنشاطهم، أعلن ضباط شرطة لوسائل اعلام اسرائيلية انهم لم يتلقوا أي تعليمات جديدة، غير تلك التي تلقوها منذ اسابيع طويلة، وهي التعامل بحذر، وحتى "بلطف" مع المتظاهرين، ولهذا فإن الشرطة التي نراها في مظاهرات اليمين المتطرف ليست تلك الشرطة التي نراها في مظاهرات الفلسطينيين في اسرائيل وحتى القوى اليسارية الاسرائيلية، فالشرطة في مظاهرات اليمين يُحظر عليها حتى حمل العصي، أما في مظاهرات العرب واليسار، فإن من صلاحية افراد الشرطة اطلاق حتى الرصاص الحي، ناهيك عن العصي والقنابل الدخانية والصوتية وغيرها.
وأكثر من ذلك، فحتى جهازي القضاء العسكري والمدني يتعامل بتمييز واضح بين اليمين من جهة وبين اليسار والعرب من جهة أخرى، فالمعتقلين من اليمين المتطرف تكون فترات اعتقالهم أقل بكثير من تلك التي تفرض على المعسكر الآخر، وحتى رافضي الخدمة العسكرية من اليمين، بحجة رفضهم المشاركة في اخلاء المستوطنات، فإن العقوبات التي تفرض عليهم هي اقل بكثير من رافضي الخدمة من اليسار الذين يرفضون خدمة الاحتلال.
وهذا يتضح أكثر في استطلاع للرأي نشر قبل ايام قليلة من صدور هذا العدد، عبر فيه 41% من الاسرائيليين عن اعتقادهم بأن رفض الخدمة العسكرية، من منطلق رفض الجنود المشاركة في اخلاء المستوطنات هو أمر شرعي، ورأى 54% ان الرفض غير شرعي، ولكن في استطلاع آخر سابق، اجاب اكثر من 74% من المستطلعين عن رفضهم لظاهرة الخدمة العسكرية من منطلقات رفض خدمة الاحتلال، ورأى 18% انه بامكانهم تفهم الظاهرة، وفقط بين 3 الى 4% ايدوا هذه الظاهرة.
أما ما رأيناه من مواجهة الشرطة لقوى اليمين الارهابي في جنوب قطاع غزة، من نشيطي حركة "كهانا" والحركات الارهابية المنبثقة عنها، فإنهم تجازوا الخط الأحمر، وهم ايضا حظوا بداية برعاية لطيفة، حتى عندما قتلوا مسنا فلسطينيا في القطاع في منتصف الشهر الماضي.
في الخلاصة نقول ان نشاط اليمين الذي نشهده الآن يخدم مصلحة مخطط شارون، وحتى إن ظهرت بوادر تهدئة فسنجد في المؤسسة الحاكمة في اسرائيل من يثيرها من جديد.
غنائم المستوطنين
تشير الكثير من المعطيات الى ان غالبية المستوطنين في قطاع غزة وشمالي الضفة الغربية قد انهت أو على وشك ان تنهي ترتيبات انتقالها للسكن داخل اسرائيل والحصول على تعويضات، وعلى الرغم من هذا فلا يزال من يتحدث في اسرائيل عن ضرورة رفع التعويضات المباشرة وغير المباشرة أكثر، على الرغم من انها تضاعفت عما كانت عليه بداية.
عندما طرحت خطة فك "الارتباط" قبل اشهر جرى الحديث عن ان مجمل تكلفة تنفيذها سيكلف خزينة اسرائيل حوالي 3 مليارات شيكل، وهي ما تعادل 680 مليون دولار، بحيث يكون قرابة 1,7 مليار شيكل للمستوطنين كتعويضات مباشرة واكثر من مليار شيكل لنفقات الجيش الذي يريد نقل معسكراته، ولكن حين وصل قانون التعويضات والنفقات العسكرية الى مراحل الاقرار البرلمانية كان المبلغ الاجمالي قد وصل الى حوالي 4,5 مليار شيكل، أي أكثر من مليار دولار، وفق سعر الصرف في حينه (شهر شباط/ فبراير).
أما اليوم فإن حجم التعويضات والنفقات العسكرية المباشرة، يقدر بحوالي سبعة مليارات شيكل، أي حوالي 1,55 مليار دولار، منها 1,1 مليار دولار للمستوطنين، وحينما نقول تعويضات مباشرة، فإن المقصود هنا بالأموال التي ستدفع فعليا، وليس التسهيلات الأخرى وبيع اراضي في محميات طبيعية على ساحل البحر الابيض المتوسط باسعار بخسة لا تصل الى ربع ثمنها، أو الأراضي الزراعية في الجليل والنقب من دون مقابل.
بمعنى آخر ان التعويضات للمستوطنين تضاعفت ثلاث مرات في غضون أقل من ستة اشهر، ولهذا فليس صدفة ان الجسم المحرك لنشاط معارضة خطة الفصل انتقل من المستوطنين انفسهم المطلوب منهم اخلاء مستوطناتهم، الى عصابات ارهابية تأتي الى قطاع غزة من الضفة الغربية، وخاصة من بؤرة الخليل ومستوطنات منطقة نابلس وغيرها.
إن المستوطنين في القطاع وفي شمال الضفة الغربية ضغطوا بداية وحصلوا على ما أرادوا، وهناك من يؤكد ان ملف التعويضات لم يصل الى نهاية المطاف، ولكنهم يدركون انه من دون تأييد شعبي لهم فسيكون من الصعب عليهم تحقيق تعويضات أكثر، وعرفوا تماما ان ممارسات الارهابيين اليهود واغلاق الشوارع الذي زاد من نقمة المواطنين ضدهم سيسيء للمستوطنين أنفسهم، ولهذا ليس صدفة ان المستوطنين، خاصة في قطاع غزة يطلبون اخراج المتطرفين الارهابيين من بينهم.
فمثلا في حديث لوسائل الاعلام في اعقاب نشاط الارهابيين قال ليئور خلفا رئيس مجلس مستوطنة "نافيه ديكاليم" التي فيها الفندق المذكور، "يجب وقف هذه الاستفزازات، إن هؤلاء (الارهابيين) يريدون تسويد وجه مستوطني غوش قطيف، كان على أجهزة الأمن ان تطيّرهم من هنا منذ زمن، انهم غير مرغوب فيهم عندنا" كما قال.
وقال مزارع مستوطن ، يدعى شمعون يارون، إن هؤلاء المتطرفين لا يعبرون عن الاجواء السائدة بين جمهور المستوطنين، ويضيف مستوطن آخر يدعى آفي زكوتو قائلا، "أنهم يتسببون لنا بأضرار، لقد خربوا علاقاتنا مع الفلسطينيين في منطقة المواصي، وكان يقصد بذلك الاعتداء الارهابي الذي نفذه الارهابيون ضد اهالي المواصي في القطاع.
وحتى مجلس مستوطنات قطاع غزة والضفة الغربية، الذي يعبر عن سياسة اليمين المتطرف لم يستطع الوقوف جانبا، بل أصدر هو الآخر بيانا اعلن فيه انه، "لن نسمح لمجموعة من الزعران الاوغاد الذين يتسببون بأضرار كما جرى في منطقة المواصي"، كما جاء حرفيا في بين المجلس مترجما.
ونعود الى حكومة شارون، التي تسعى بأي شكل من الاشكال قبض ثمن احتلالها لقطاع غزة واستنزاف موارده الشحيحة والسيطرة عنوة على اراضيه، وتريد من العالم ان يمول لها مشروعها، ولربما تعتقد ان ضغط اليمين المتطرف سيجعل اوساطا معينة في الأسرة الدولية تغير من موقفها، أزاء المساهمة في تمويل التعويضات.
وعلى ما يبدو فستنجح اسرائيل في الحصول على حوالي مليار دولار من الادارة الامريكية لتمويل مشروع عنصري في منطقتي الجليل شمالا، والنقب جنوبا، لتهويد المنطقتين، إذ أن في الشمال غالبية عربية، وفي الجنوب تصل نسبة العرب الى 40%، وتريد الحكومة تشجيع المستوطنين في القطاع وغيرهم من اليهود السكن في هاتين المنطقتين، وهذه المرّة بدعم امريكي واضح.