بدأ رئيس الحكومة الاسرائيلية، اريئيل شارون، في هذه الايام أولى خطواته في صراع البقاء على كرسي زعامة حزبه الليكود، وبالتالي على رئاسة الحكومة، في اطار المنافسة الشرسة بينه وبين الوزير المستقيل بنيامين نتنياهو، وعلى ضوء تركيبة الحزب التي بغالبيتها من اليمين المتطرف ولا تعكس بالحقيقة طابع جمهور المصوتين لليكود.
ففي الوقت الذي يواجه فيه شارون هجوما شديدا وعنيفا من داخل حزبه، فإنه يحظى لأول مرّة في حياته بهذا القدر من الشعبية في الشارع الاسرائيلي، وإذا اعتبرنا ان هذا رد فعل اسرائيلي طبيعي "لنجاحه" باخلاء مستوطنات قطاع غزة، فإن المثير هي حالة الانقلاب التي نشهدها في وسائل الاعلام الاسرائيلية، التي أصبحت داعمة لشارون.
فعلى سبيل المثال، فإن صحيفة "هآرتس"، صحيفة النخبة في اسرائيل، وتميل الى اليسار وتيار الوسط الصهيوني، اتخذت على مدار سنوات طوال خطاً مناهضا لشارون، ذلك الجنرال الشرس، الذي واظبت الصحيفة على تذكيرنا بتاريخه الدموي، ودعت الشارع دائما الى ابعاده عن مركز السلطة في اسرائيل، هي اليوم تقريبا مجندّه لدعمه امام نتنياهو.
كذلك فإن كبار المحللين والصحفيين في اسرائيل المحسوبين ايضا بغالبيتهم على اليسار وتيار الوسط الصهيوني "لم يبخلو" في الماضي بالكتابة عن شارون وعقليته المتحجرة العدائية، وعن كونه المتآمر دوما على قيادات حزبه وعلى رؤساء الحكومات المتعاقبة، خاصة منذ العدوان على لبنان في العام 1982 ومجرزة صبرا وشاتيلا، ثم دوره في تعزيز الاستيطان، ورفضه لاتفاقيات السلام في خمس حكومات كان وزيرا فيها، وحكومتين ترأسهما.
أما اليوم فنحن أمام حالة جديدة، حالة دعم مطلق لشارون، خاصة في معركته امام نتنياهو، على الرغم من ان الصحف الاسرائيلية الاساسية هي صحف تجارية، وتحاول الظهور بموقف الحياد وعدم الانحياز لأي طرف، وكل هذا بسبب تنفيذ خطة اخلاء مستوطنات قطاع غزة، التي اعتبرتها غالبية الشارع الاسرائيلي، دوما، انها عبئا على الخزينة الاسرائيلية، ولا تخدم اسرائيل بشيء.
ولكن ما هو أكثر "غرابة"، وغرابة الى حد ما، هو انسجام وسائل الاعلام العالمية، وبعض العربية في "مهرجان" الدعم لشارون، وبات يلاحظ ان هناك وسائل اعلام تتعاطى مع خطابات شارون بأنصاف الجمل، تأخذ منها ما ينسجم مع بدعة ان شارون "تغير"، فعلى سبيل المثال، حين يقول شارون مساء يوم الثلاثاء الأخير، انه ليس جميع المستوطنات ستبقى في اطار الحل الدائم في الضفة الغربية المحتلة، فإنه قبل يومين من هذا التصريح أوضح انه يدعم أكبر وأخطر المشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية، ولا يمر يوم دون ان يؤكد شارون على انه يريد ضم الكتل الاستيطانية الضخمة في الضفة لاسرائيل، وعلى الرغم من هذا، فإن وسائل اعلام عالمية، وحتى عربية مركزية منها، تمسكت فقط بعبارة "ليس جميع المستوطنات ستبقى في اطار الحل الدائم"، وحتى ان التعليقات والمقابلات تركزّت على هذه العبارة دون سواها.
من الضروري الانتباه الى اننا لسنا امام حالة من "المزاج" العابر لوسائل الاعلام الاسرائيلية و"غيرها"، وانما امام نهج مبرمج، لا نتهم به الجميع، فهناك من تورط به بمعرفته او من دون معرفته، ولكن النتيجة واحدة.
إن أحد أهم الاهداف التي وضعها شارون وحلقته السياسية، لدى وضعهم خطة اخلاء مستوطنات قطاع غزة والمستوطنات الاربع في شمال الضفة الغربية، هو خلق مناخ سياسي واعلامي آخر على صعيد الاسرة الدولية، لينعكس مباشرة على الشارع الاسرائيلي، بهدف فسح المجال امام اسرائيل لتنفيذ سلسلة من المخططات الاستيطانية في الضفة الغربية وهضبة الجولان السورية، تحت ستار غبار الاخلاء، ودون ان تواجه ضغوطا دولية. وهذا موضوع لا نطرحه هنا لأول مرّة، ولكن الاحداث المتلاحقة تؤكد ان اسرائيل تطبق الخطة بحذافيرها.
إن بعض وسائل الاعلام تريد اليوم فرض معادلة "نتنياهو المتطرف امام شارون المعتدل"، وهي معادلة مشوهة للحقيقة وتُغرق الرأي العام بأوهام لا أساس لها. إن الخلاف الأساسي الدائر اليوم في معسكر اليمين الاسرائيلي، هو بين مجموعة المتطرفين التي تريد توطيد الاستيطان دون الأخذ بعين الاعتبار ضغوط الأسرة الدولية، وبين التيار الذي يقوده شارون الداعي الى تعزيز وتوسيع الاستيطان، مع ضمان صمت الأسرة الدولية، وهذا أخطر بكثير ونراه على أرض الواقع اليوم.
حين نقول ان شارون لم يغير عقليته فهذا ليس شعارا، بل واقعا مثبت يوميا، ولربما ان بعض عدسات الكاميرا والمايكروفونات في العالم لم تنفض عنها بعد غبار اخلاء مستوطنات قطاع غزة، وخيرا إن فعلت هذا لترى الصورة الحقيقية لما يجري على أرض الواقع في فلسطين.