وقف رئيس الحكومة الاسرائيلية، اريئيل شارون، مساء يوم الخميس الأخير، امام الهيئة العامة للأمم المتحدة، قبل يوم واحد من الذكرى الثالثة لمجزرة صبرا وشاتيلا والرهيبة، التي تمت تحت توجيه واشراف شارون نفسه في العام 1982.
والقى شارون خطابا توراتيا ملأه بالكثير من العبارات الدينية، ومزاعم ارتباط ابناء الديانة اليهودية بما يسمى "ارض اسرائيل"، ومع علمه ان العالم يراقبه وينتظر تصريحاته، فقد اختار ان يفتتح كلمته، بقوله إنه جاء من "يروشلايم (القدس) عاصمة الشعب اليهودي منذ ثلاثة آلاف سنة، وعاصمة اسرائيل الى أبد الآبدين"، لتتبع ذلك عدة فقرات يدعي فيها علاقة "الشعب" اليهودي "بأرض اسرائيل"، وانها "ارض الميعاد لليهود"، ولم يكن صدفة ان شارون كرر هذه العبارات عدة مرات في خطابه، وهذا لم يكن سوءا في حبكة الخطاب من قبل معديه، بل هو رسالة واضحة لما سيأتي.
لا يُعتبر شارون شخصا متدينا أو ملتزما بالشرائع اليهودية، ولكنه يتشبث بهذه المعتقدات الدينية، التي بنت الحركة الصهيونية نفسها عليها، لاهداف سياسة وهو يقول للعالم ان كل "ارض اسرائيل" هي حق "للشعب" اليهودي، وعلى هذا الأساس ستبني اسرائيل كل ما سيأتي في اطار "تقاسمها أرض اسرائيل" مع "الشعب الآخر"، وفق المصطلح الذي استخدمه بداية اريئيل شارون في ذلك الخطاب.
لقد اراد شارون اولا تثبيت هذه المقولة امام العالم، ليقول له وللشعب الفلسطيني وكل من يقف معه، إن اسرائيل لا تنسحب من الأراضي بل "تتنازل" عنها، وهو يشدد على مصلح "التنازل" وليس استحقاق الانسحاب، ويقول في خطابه، "إن كل تنازل عن أي شبر أو جبل أو صخرة من أرض اسرائيل هو تنازل مؤلم للشعب اليهودي، الذي ترتبط ذاكرته بكل قطعة من هذه الأرض"، بمعنى انه إذا الخروج من داخل قطاع غزة، هو مؤلم جدا، فكيف سيكون الحال في الخروج "من مملكة يهودا"، وفق المعتقدات اليهودية، وهي الضفة الغربية.
ويقول شارون: "إن حق الشعب اليهودي بارض اسرائيل لا يعني تجاهل حق "الشعب الآخر" على هذه الأرض، بأن يقيم دولته الحرة، فنحن لا نريد السيطرة على شعب آخر"، وهناك من تشبث بهذه المقولة بانقطاع تام عن كل ما سبقها في نفس الخطاب، واعتبر هذه المقولة "نقطة ضوء"، ومؤشرا على موافقة شارون على اقامة دولة فلسطينية.
ولكن لا يمكن التعامل مع هذه العبارة بانقطاع عما سبق في الخطاب ومن دون رؤية مخططات حكومة الاحتلال الاسرائيلي التي تنفذها في الضفة الغربية من بناء جدار فاصل عنصري وتوسيع الاستيطان ليحول الضفة الغربية الى كانتونات مغلقة منفصلة عن بعض بعضها بكتل وأحزمة استيطانية.
لقد ربط شارون أي تقدم سياسي مزعوم من قبله بمحاربة ما يسمى بـ "الارهاب"، وهذا استمرارا لنهج اسرائيل منذ عشرات السنوات، باختزالها القضية الفلسطينية بمجرد "قضية ارهاب" لا أكثر، وكل معالجة لهذه القضية على الساحة الدولية تبدا من هذا الباب، وهذا أمر خطير جدا، فنقطة البدء والختم في هذه القضية يجب ان تكون الاحتلال وانتهائه، لأن كل ما يظهر على سطح الأرض من مقاومة، مقبولة كانت أم مرفوضة في بعض الأحيان، سببها الاحتلال، وبزوال الاحتلال ستزول حتما، فهذه ارادة شعب ينشد الحرية.
لقد وقف شارون على هذا المنبر العالمي ولوحظت عليه معالم "نشوة النصر"، فمجرم الحرب الذي كانت الغالبية الساحقة من دول العالم، وخاصة اوروبا، ترفض ان يتخطى حدودها، أصبح اليوم السلعة المطلوبة في اروقة الامم المتحدة، وتمنى شارون ان يمضي اياما اكثر في هذه الأروقة، وان لا يعود الى اروقة حزبه، الذي يسيطر عليه المتطرفون، حيث أزمته الحزبية الخاصة، فهو كالمتطرفين يريد "ارض اسرائيل الكاملة"، ولكن خلافه معه يدور حول تحقيق هذا.
إن مطلب الساعة هو استثمار العلاقات الدولية القائمة مع اسرائيل للضغط عليها لوقف اخطبوط الاستيطان، وعدم "مكافأتها" بفتح ابواب جديدة عليها، كما ان المطلوب من القيادة الفلسطينية هجوما اعلاميا سياسيا على الساحة الدولية، للتركيز على ممارسات اسرائيل الحقيقية في الضفة الغربية، ووضع حد لحالة الانفراج التي يشعر بها حكام اسرائيل، ولكن علينا ايضا النظر بموضوعية الى انه في الساحة الفلسطينية الداخلية هناك من يربك ويحرج ويشغل القيادة الفلسطينية بفوضى داخلية، بقصد او من دون قصد، وهذا ملف فلسطيني داخلي لا يمكن تجاهله.