يحتدم النقاش في اسرائيل في هذه الأيام حول ضرورة مكافحة الفقر ومساعدة الشرائح الفقيرة والضعيفة، على ضوء سلسلة من التقارير تؤكد استفحال هذه الظاهرة، والسبب الأكبر لاندلاع هذا النقاش هو اقتراب موعد اقرار الموازنة العامة لاسرائيل للعام القادم، 2006، الذي سيكون هو ايضا عام انتخابات، يسعى فيه الساسة لاسترضاء "فقراء الشعب"!.
وتؤكد التقرير ان أكثر ضحايا الفقر هم فلسطينيي 48 يليهم بفجوة كبيرة اليهود الشرقيون والمهاجرون الجدد واليهود الاصوليون.
وفي هذه المعالجة نستعرض سلسلة من التقارير التي تكشف الوضع الاقتصادي الاجتماعي في اسرئيل.
ارتفاع نسبة الفقر واتساع الفجوات
دلّ تقرير مؤسسة التأمين الوطني الاسرائيلية (مؤسسة الضمان الاجتماعي الحكومية)، الذي صدر مؤخرا حول معطيات العام 2004، على ان عدد الفقراء في اسرائيل ازداد بنسبة 5,2% مقارنة مع العام الذي سبقه 2003، وهي نسبة أكثر من ضعف نسبة ازدياد عدد السكان في اسرائيل، التي هي حوالي 2,4%. وقال التقرير ان عدد الفقراء الذين تحت خط الفقر الرسمي في اسرائيل حوالي 1,450 مليون نسمة ويشكلون 22,4% من مجمل سكان اسرائيل.
والمقياس الذي تتبعه مؤسسة الضمان الاجتماعي في اسرائيل لتعريف خط الفقر، هو كل شخص يعيش بمفرده ومدخوله الشهري ما يعادل 385 دولارا، او زوجين يعيشان بمدخول شهري حتى 617 دولارا، وعائلة من ثلاثة انفار مدخولها الشهري 817 دولارا، وعمليا يكفي ان تحصل احدى هذه الحالات على مدخول اعلى بـ شيكل واحد (22 سنتا) لتخرج من دائرة الفقر، لذلك بدأ في السنوات الأخيرة صدور تقرير الفقر البديل، تبادر له جمعيات ذات شأن، ويعطي صورة أكثر سوداوية من تلك التي امامنا، وآخر "تقرير بديل" صدر في نهاية العام الماضي أظهر ان عدد الفقراء في اسرائيل فاق 1,7 مليون شخص وهو ما يعادل 25,5% من السكان.
كما يشير تقرير مؤسسة الضمان الى ان ارتفاعا طرأ ايضا على عدد الأطفال الفقراء واصبحت نسبتهم حوالي 30% من مجمل الأطفال في اسرائيل، بينما نسبتهم في العام الماضي كانت تقل عن 28%، كذلك فإن نسبة العائلات الفقيرة من مجمل العائلات في اسرائيل ارتفعت الى 19,3%، بدلا من 18,1% في العام 2003.
ولكن هذه الصورة العامة، أما في التفاصيل فسنرى فجوات رهيبة بين اليهود وفلسطينيي 48، فمثلا في حين ان نسبة الأطفال الفقراء العامة في اسرائيل هي 30%، فإن نسبة الأطفال العرب الفقراء ترتفع الى 60% من مجمل الأطفال العرب في اسرائيل، وعلى الرغم من ان الأطفال العرب يشكلون 25% من الأطفال في اسرائيل إلا انهم يشكلون 50% من مجمل الأطفال الفقراء.
وكذلك الأمر بالنسبة للعائلات، ففي حين ان النسبة العامة للعائلات الفقيرة في اسرائيل هي 19,3%، فإن نسبة العائلات العربية الفقيرة تصل الى 47% من مجمل العائلات العربية.
وفي آخر تقرير حول مداخيل العائلات الذي اصدرته دائرة الإحصاء المركزية مؤخرا، يظهر ان العُشر الاول من العائلات في اسرائيل مدخوله اكبر بـ 12,1 مرّة من العُشر الأخير من العائلات في اسرائيل، إذ ان معدل مدخول العائلة الصافي الشهري في العُشر الاول يصل حوالي 5555 دولارا، في حين ان معدل مدخول العائلة الصافي الشهري في العُشر الأخير هو 642 دولار.
ويقول التقرير ان ذوي المداخيل العالية ازداد مدخولهم في العام الماضي 2004 بنسبة 2,5%، في حين ان مدخول العائلات ذوي المداخيل الشحيحة انخفض بنسبة 2,6% ويعود هذا بالدرجة الاولى الى سياسية ما يسمى بـ "الاصلاح الضريبي" التي اتبعتها الحكومة، وهي عمليا لا تطال ذوي المداخيل المنخفضة بتاتا، كون ان رواتبهم لا تصل الحد الادنى من درجات الاحتساب الضريبي.
ويكشف تقرير آخر اصدره مركز ادفا للابحاث الاجتماعية، حول معدل الرواتب حسب المدن والقرى، وهو تقرير سنوي، ان أفقر 57 مدينة وقرية في اسرائيل، من اصل حوالي 200 بلدة، هي عربية، باستثناء بلدة واحدة يهودية للاصوليين اليهود وتحتل المرتبة الـ 37، ولكن اقصى قرية عربية تحتل المرتبة 111 ليبق امامها حوالي 90 بلدة الى اعلى وجميعها يهودية.
ارقام كبيرة وحقائق معاكسة
من المفارقات ان التقارير حول الاغنياء والاثرياء تصدر بتزامن، فقد قال تقرير دولي ان في اسرائيل يعيش اليوم نحو 6600 مليونير، أي كل منهم يملك مليون دولار كسيولة نقدية وأكثر، وتبلغ قيمة ثروتهم حوالي 24 مليار دولار، وهذا أكثر بـ 10% من عدد الاغنياء الذي كانوا في اسرائيل في العام 2003، الذي كان عددهم 6 آلاف مليونير، كما ارتفعت ثروتهم بنسبة 20% مقارنة بالعام 2003.
ومن جهة أخرى فقد دلّت معطيات على انه في اسرائيل أكثر من مليون جائع، لديهم أزمة غذائية دائمة، من اصل 6,7 مليون نسمة، وقال بحث اسرائيلي ان هناك نصف مليون جائع يعتاشون على معونات غذائية من جمعيات خيرية بشكل منظم، من خلال 170 جمعية منظمة، ولكن البحث نفسه يقول ان هناك مئات آلاف أخرى، وقد يصلون الى نصف مليون، إما انهم يتوجهون الى جمعيات أخرى، أو انهم من العرب الذين يخجلون من التوجه الى جمعيات خيرية، او طلب المساعدة الغذائية، وغالبا ما يتلقونها من الاقارب والجيران سرا، بعكس فقراء اليهود.
ودلّ تقرير دولي ظهر في نهاية الاسبوع الماضي، على ان اسرائيل تحتل المرتبة السابعة عشر في جدول الثراء الدولي، الذي يعده البنك الدولي، ويأخذ بالحسبان حجم الناتج القومي الاجمالي للفرد، والموارد الطبيعية والاراضي ونوعية المنتوجات والصادرات والمستوى العلمي وغيره، وحسب ذلك الجدول فإن معدل الثراء القومي للفرد في اسرائيل يصل الى 295 الف دولار، في حين ان اغنى دولة في العالم هي سويسرا مع 650 الف دولار للفرد.
كما ان معدل الناتج للفرد في اسرائيل يصل الى حوالي 17300 دولار، وهو مثلا اعلى بكثير من دولة مثل اليونان، التي فيها يصل معدل الناتج الى اعلى بقليل من 14 ألف دولار، ولكن دراسة اقتصادية أكدت ان أكثر من ثلاثة آلاف دولار من معدل الناتج للفرد في اسرائيل تعود للانتاج العسكري الذي لا يستفيد منه المواطن. وامام هذه الارقام الضخمة فإن المواطن الاسرائيلي ابعد ما يكون من مستوى الرفاهية التي قد نتوهمها، ومعدلات الفقر السابق ذكرها تؤكد هذا.
ولكن ليس هذا فحسب، بل ان اسرائيل تشهد في السنوات الأخيرة تسارعا في وتيرة خصخصة ما تبقى من القطاع العام في اسرائيل، بالاضافة الى تراجع المشاريع البنيوية وتقلص فرص العمل، ولا يمكن القول ان هذا بسبب وزير المالية بنيامين نتنياهو الذي ترك منصبه في مطلع شهر آب (اغسطس)، ولكنه اعطى هذا التوجه دفعة قوية، الى جانب حربه على المخصصات الاجتماعية التي تدفعها مؤسسة الضمان الاجتماعي لمختلف الشرائح الاجتماعية، بدءا من مخصصات عن كل ولد دون الـ 18 من عمره، ومخصصات الام الوالدة، وتأمينات الشيخوخة والمعاقين والمرضى، وحتى مخصصات البطالة وتأمين الدخل، ليشطب بذلك مصطلح "دولة رفاه"، الذي كانت تتغنى به اسرائيل على مدى عشرات السنوات.
وانطلق نتنياهو ببدعة ان هذه المخصصات، وخاصة البطالة، باتت محفزا لعدم الخروج للعمل، والمح كثيرا الى ان هذه الظاهرة، عدم الخروج للعمل، تنتشر بين العرب خاصة، حيث تصل نسب البطالة لديهم ما بين 13% الى 17%، في حين انها لدى اليهود هي في حدود 6% الى 8%، ولكن حقيقة هذا الفارق تعود لسياسة التمييز العنصري التي يعاني منها العرب على عشرات السنين، ورفض الحكومة تصنيع بلداتهم واقامة مناطق صناعية قادرة على استيعاب آلاف العاملين. كما حارب نتنياهو مخصصات الأولاد بزعم انها تشكل حافزا للعرب للانجاب أكثر، وهذا توجه عنصري وقح، فقد أكدت جميع الاحصائيات ان تراجع معدلات الولادة عند فلسطينيي 48 مستمرة منذ مطلع سنوات التسعين من القرن الماضي، وبالذات حينما ارتفعت قيمة هذه المخصصات وليس تقليصها، وهذا نتيجة لتطور المجتمع.
وتؤكد المعطيات زيف الادعاءات بشأن البطالة، فالعاطلون عن العمل، وحتى بعد تقليص مخصصاتهم، لم يجدوا الاعمال التي تناسبهم، وهم يضطرون للتوجه الى اعمال جزئية، او الى اعمال يتقاضون فيها رواتب دون الحد الادنى من الرواتب، فقد اظهرت دراسة على انه في النصف الاول من العام الجاري، توجه 80 الف شخص الى اماكن عمل جديدة، وتبين ان 60 الفا منهم عملوا في وظائف جزئية او في وظائف دون الحد الادنى من الرواتب، وهؤلاء خرجوا قسرا من معطيات البطالة، التي انخفضت من 10,9% في مطلع العام الجاري 2005 الى 9,1% في الشهر الماضي ايلول (سبتمبر).
زد على ذلك ان مسحا جديدا لاتحاد الغرف التجارية الاسرائيلية، ظهر قبل اسبوعين، دلّ على أن 41% من الأجيرين من اسرائيل يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجر، الذي يبلغ 3100 شيكل صافي، وهو ما يعادل 688 دولارا، وأظهرت دراسة لمنظمات اجتماعية ان تقليص المخصصات على انواعها كشف حقيقة الفقر في اسرائيل، ولم يحفز الناس للخروج للعمل، لأن 92% من الذين يتقاضون المخصصات هم أولئك غير القادرين على التوجه الى سوق العمل، إما بسبب الجيل او الاعاقات وغيرها.
وتقول التقارير انه على الرغم من انخفاض البطالة، والاعلان عن ان النمو الاقتصادي يتراوح ما بين 3,5% الى 4%، إلا ان معدلات الفقر لم تتراجع ابدا في اسرائيل، لا بل زادت، فتقارير بنك اسرائيل المركزي نفسه، تؤكد ان النمو الاقتصادي في اسرائيل محصور لدى كبار رؤوس الاموال ولم يتأثر به الشارع الاسرائيلي بعد.
تذهب اسرائيل بعيدا في كل بقاع العالم تبحث عن ابناء الديانة اليهودية لتبشرهم بـ "ارض السمن والعسل"، ولكن الاوضاع الاقتصادية المتدهورة في اسرائيل اصبحت معروفة لليهود في العالم الذين احجموا عن الهجرة لاسرائيل باعداد كبيرة، وتقول التقارير ان الهجرة الى اسرائيل في العام العبري الذي انتهى في الاسبوع الماضي سجّلت تراجعا اضافيا، ولم يصل أكثر من 23 الفا، وهذا من دون احتساب آلاف اليهود الذين يهاجرون اسرائيل سنويا الى دول العالم.