هل كنا نحتاج حقا إلى خطاب الرئيس الأميركي الأخير حول "الفاشية الإسلامية" لتثور أعصابنا ونستنفر اشمئزازنا قبل أقلامنا غالبا لنعرف أننا نخوض معركة شرسة ضد محاولات إلحاقنا بالنماذج الأكثر بشاعة للعنصرية والحقد في التاريخ البشري؟ ألم يكن زلزال الحادي عشر من أيلول الذي استدعى تجييش "حرب صليبية" -بحسب تعبير الرئيس بوش ذاته- عمقت من مهانتنا، من خلال العدوان والاحتلال والتعذيب (أصالة أو وكالة)، ألم يكن كافيا لنعي هذه المعركة أو إرهاصاتها؟ الجواب هو للأسف "لا"، رغم كل ما قد يبدو من مؤشرات تفند زعمنا هذا!
صحيح أننا نخوض منذ عقود طوال، باسم الإسلام و/ أو باسم القومية العربية، معركة لا هوادة فيها ضد الغرب الإمبريالي، لكن هذه المعركة لم تكن في الواقع سوى "حرب دونكيشوتية"، وهي إن خرجت عن هذا النمط فقد استحالت إلى حرب انتحارية، نقدم فيها كل ما نملك لكي نقتلع إظفرا من أظافر عدونا، الذي لا يلبث أن ينمو من جديد!
أما لماذا كانت معاركنا دينكوشوتية و/ أو انتحارية، فهي لأننا أخطأنا العدو فأخطأنا السلاح، أو أننا أخطأنا السلاح فأخطأنا العدو؛ فهل أن عدونا هو الغرب ككل؟ إن صح ذلك بالصورة الكلية الاستراتيجية، فتظل هذه الرؤية مخطئة تماما بلغة السياسة التي تحكم المعارك والحروب، والتي –أي السياسة- يشكل استغلال التناقضات الدولية فيها موقع القلب. فالغرب ليس واحدا منسجما ومتعاضدا إلا بقدر ما نتوهم ذلك حد اليقين. وفي ذات السياق، وحتى حينما نكون قادرين على تحديد الخصم أو العدو ببلد معين، وهو اليوم الولايات المتحدة خصوصا، أفلسنا نقر - بمن فينا أسامة بن لادن - أن ثمة بونا شاسعا لا يخطئه عاقل بين رجالات السياسة ونخبها وبين المجتمع الذي قد يكون في غالبيته العظمى جاهلا بنا وليس عدوا لنا على الإطلاق؟
إن صح وعينا بكل ما سبق، فإن جوهر القضية إنما يتمثل بالركن الآخر للمعركة، وهو السلاح أو أداة المجابهة والصراع. واستنادا إلى ذلك الوعي، فبغض النظر عن الحدود الجغرافية والثقافية التي نعرف بها عدونا، يبدو من البداهة أن أداة الصراع هذه لا تبدأ وتنتهي بالسلاح وفق التعريف الدقيق والمحدد لمفهوم السلاح، وأن سبل المواجهة مع عدونا لا يمكن أن تكون محض مواجهات دموية! بل في ظل ميزان القوى السائد، يبدو أن سلاحنا الأهم هو مخاطبة الآخر المختلف، ونقل رسالتنا الحقيقية إليه، حول رؤيتنا السامية التي لا نمل التباكي على تشويهها، فيما نقف نحن كأيتام على موائد اللئام!
والواقع أنه عند هذه النقطة تكتمل الصورة حول إخطائنا الوسيلة، وبما يفسر عجزا مجتمعيا ورسميا على السواء، عن إيقاف الهزيمة - قبل تحقيق أي انتصار - في أكثر الميادين تأثيرا في معركتنا مع الغرب، ولربما غيره في العالم أجمع، بل وبقيت هذه الهزيمة تتوالى رغم زلزال الحادي عشر من أيلول، ورغم أنف ثورة الاتصالات التي اكتسحتنا.
صحيح تماما أن الهجوم على الولايات المتحدة في عقر دارها، وتحميل تنظيم عربي إسلامي المسؤولية عن الهجوم، ما أدى إلى حملة غربية إعلامية وسياسية وعسكرية، لا تزال مستمرة، على العرب والمسلمين، صحيح أن ذلك قد أدى إلى استثارة وعينا بأهمية دور الكلمة والخطاب، ليس ذلك الموجه إلى الخارج (العالم الغربي خصوصاً) فحسب، بل وحتى ذاك الموجه إلى الداخل (أي إلى أنفسنا)، بيد أن الخطيئة التي مازلنا نصر على ارتكابها هي أنه ورغم الاختلاف والتباين على كل مستوى بين المخاطبين والمستهدفين برسالتنا، فقد بقينا نجمع بينهما في أمر واحد، وهو لغة الخطاب.
فعلى سبيل المثال، وإذا كان مؤلما، ودليلا لا يقبل الجدل على فشل مزمن، أن نضطر بعد أكثر من خمسين سنة من النضال وتقديم الشهداء والتضحية -حتى بأبسط حقوق الإنسان العربي- في سبيل أعدل قضايانا وأوضحها، وهي القضية الفلسطينية، أن نضطر إلى العودة إلى المربع الأول للتمييز بين حقنا في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وبين الإرهاب، وهو خطاب موجه إلى الخارج، فإن ما هو مؤلم أكثر أننا مازلنا، حتى هذه اللحظة، نخاطب ذاك الآخر المختلف بلغتنا نحن وليس بلغته! لا نعني بذلك مضمون الخطاب وأركانه وحججه فقط - ولذلك مكان آخر نتحدث عنه - بل ما نقصده هنا هو اللغة بمعناها الحرفي، كأبسط مبادئ فعالية مخاطبة الآخر.
مؤتمرات هنا وهناك، ودراسات قد تبدو كثيرة ومتنوعة، ونقاشات وجدل لا ينتهي حول الحيف والظلم الذي لحق بنا لعقود أو عصور وأهدر من حقوقنا ما هو أكثر من أن يحصى... وماذا بعد؟ إننا نحصد الريح! والسبب أننا لا نخاطب الآخر بلغته، بل بلغتنا العربية. والأدهى أن هكذا جهد نبذله، وبافتراض أعلى درجات صدقه وانتمائه، قد يغدو عبئا علينا لا ذخيرة لنا، إذ قد يكون المادة الدسمة لانتقائية غربية عدوانية وعنصرية، تنتقي ما يذكي عداء الآخرين لنا من حيث أردنا أن نستميلهم كحلفاء أو حتى متعاطفين مع قضايانا وحقوقنا، ومعهد "ميميري" (MEMERI) المسؤول بجدارة واستحقاق عن إغلاق مركز بحثي عربي رائد، هو "مركز زايد للمتابعة والتنسيق"، ليس سوى نموذج واحد من نماذج عدة على ذلك، ناهيك عما يكتب في الغرب عن الإسلام إلى اليوم، بجهالة أو بهدف ندركه ولا نحرك لردعه ساكنا.
في ظل حمى المؤتمرات والندوات التي نتنادى إليها للدفاع عن حقوقنا، ودفع التهم المتكالبة علينا، ربما تستحق شعوبنا من مثقفيها قبل حكامها، التوقف عند حقيقة أن الولايات المتحدة، وبرغم هيمنتها وكون اللغة الإنجليزية هي اللغة العالمية الأولى، لا تزال تخاطب الآخر بلغته لتحقيق مصالحها! وأن نتأمل في عدد اللغات التي تنطق بها هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)manar.rashwani@alghad.jo