عندما وصل احدى المسنّات نبأ موت اخيها، وهي امرأة جبارة، ذهبت الى المطبخ، "خشّة" اكثر مما هو مطبخ، "دلقت" بيضة نيئة في فمها، كما تفعل كل يوم. تناولت افطارها، وذهبت الى بيت الفقيد، قبل ان تتمتم ببضع كلمات" "اليوم في عياط كثير قدامنا".
في أحد المواسم التي كانت تتألق فيها وهو البكاء على الميت، كانت تبدأ الدورة الاولى بأن تقول "يللا نقول اشي عليه" وتبدا بالاغاني الحزينة التي تقطع القلب، وكان الجميع من حولها ينوح والدموع تنزل مدرارة مثل نهر جار. عنما تتعب، كانت "تنهرهن": "شو بنفع العياط، الله يخلي ولادو" ويبدأ الديوان بطق الحنك، هذه تتحدث عن طبخة اليوم وتلك شوية نميمة، كأن الميت الجاثم امامهم حي يرزق ويشارك في النقاش. بعدين عندما تشعر ان الامور اخذت تفلت من السياق، تنهرهن مرة اخرى: "خلونا نعيط شوي. يا حسرتي على مرته" وهكذا دواليك. هنالك من تقول ان سر قوة هذه المسنّة هو انها "راتسيوناليت"، مطبش لاتيني على عبراني، يعني امرأة تعتمد العقل لا العاطفة في معالجتها للامور.
عندما احضروا زوجها الميت، وهو ابن الرابعة والثمانين محملاً في نعش، بعد مرض طويل في الرئات نتيجة عِشرة حوالي سبعة عقود مع الدخان، وقفت، وسط ذهول الحاضرين وزغردت. ليش؟ "لأنه لم يذق الحسرة في حياته"، قالت، اي انه لم يذق حسرة فقدان الابن او البنت. في هذه اللحظة نسيت، او ربما تناست الحسرات الاخرى التي ذاقها، وهكذا استطاعت في الوقت الحاسم ان تغيّر كتابة التاريخ. لقد قررت، كما يظهر، ان لا يكون هنالك "عهر" كما كانت تسمي من يبالغ في الحزن. نجحت فقد لجمت الجميع في موقفها الحازم والغريب.
تذكرت هذه الامور عندما قرأت عن سفر وفد عن شباب التجمع الى شرم الشيخ، بالضبط في ذكرى يوم القدس والاقصى. لا اعرف ماذا كان السيناريو لاقرار هذه الفعالية العصيّة عن الفهم. ولكن الأمور متشابهة الى حد كبير، أن الموقع، لدى البعض، هو المقرر في مضمون الموقف. ماذا يقولون: "لكل مقام مقال"، وليس بالاسلوب فقط، بل في الجوهر. في مواقع معينة يجب ان تكون اللهجة نارية. اذا لم تكن اللهجة نارية هذا يعني انك غريب عن الموقع. بعد دقائق في موقع اخر تكون لهجة اخرى تناسب الموقع الجديد. تماماً كما يحدث لدى البكاء على الميت المسجّى. عندما تشاهد الحسرة، الدموع والتأوهات تعتقد ان الحياة لدى بعضهن ستتوقف. بعد دقائق، بعد ان يخرج الميت، ويلتمون حول الطعام، كأن شيئاً لم يكن.
ومن جهة اخرى عندما لا يكون القرار صميمياً (بالعربي "اوتينتي")، فسيتم التعامل معه بنفس اللاصميمية. يمكن ان نذكر الف سبب لنجاح اضراب يوم الارض في العام 76، ولكن التفسير الاهم انه قرار صميمي، بالضبط صميمي كقصيدة سميح القاسم غداة يوم الارض، التي يقول في احد ابياتها "في جيبي في عب القمباز اصون الكوشان"، اذا لم تكن القرارات البعيدة المدى التي نتخذها في نضالنا صميمية، بنفس صميميّة صيانة الكوشان في "عب القمباز" فستحدث هذه المفارقات، فاذا كان هنالك من يريد ان يتم الغضب بفعل قرار او بفعل الواجب فنضالنا سيكون باهتاً، وأحياناً كثيرة "سيحترق الفيلم"، كما حدث في شرم الشيخ.
* جيّد ان لدينا جارة
عندما تتوغل اكثر في قضية التمثيل النسائي في الهيئات الحزبية والقيادية بين الجماهير العربية، تكتشف ان هنالك ابعاداً اخرى يجب معالجتها. في مقالة سابقة حول هذا الموضوع تحدثت عن الرفض العميق الداخلي لقيادة امراة، اي ان الرجل مستعد ان تخرج امرأته للعمل، وان تكون فعالة في الاكاديميا وفي الاقتصاد والمهن الاخرى، ولكن قضية القيادة غير واردة.
الحقيقة ان هنالك جانب اخر، لا يقل اهمية وربما هو الاهم، وهو ان هذا المجال، القيادة او ما اصطلح على تسميته السياسة اصبح مرفوضاً اكثر واكثر على اوساط واسعة بين الجمهور العربي والاسرائيلي بشكل عام. واساس هذا الرفض هو كمية "الموبقات" التي تزكّم الانوف في هذا المجال. على المستوى الاسرائيلي، انظروا الى مركز الليكود! من هو العاقل والنظيف و"الايدلوجي" المستعد ان يدخل الى مركز الليكود من اجل تجسيد افكاره؟ سينضمّون الى حزب هتف اغلبية اعضاؤه امام ليمور لفنات، انهم يريدون "جوبات" (وظائف)، هيك- عينك عينك، لا ايدولوجيا ولا يحزنون. اعضاء مركز الليكود يجوبون الكنيست من اجل تنفيذ مصالحهم الشخصية والعائلية. وعضو الكنيست يجب ان يلبّي الطلبات لانه اذا لم يفعل ذلك فعلامة سؤال كبيرة حول وجوده.
ومن جهة اخرى من هو العاقل المستعد ان يُنافس على قيادة حزب العمل، عندما يرافق هذه الحملة تحقيقات بوليسية مكثفة، وعندما تزدهر صناعة تزوير نماذج الانتساب؟ بالضبط كما ان الانسان العاقل لا يدخل الى مقهى مشبوه، او يرفض صداقة اناس مشبوهبن، هكذا الامر بالنسبة للسياسة الملطخة بالمصالح وبالعنف.
يوجد كم هائل وغريب من "الحرارة" في السياسة. الاستعداد لتلطيخ سمعة الاخر، الاستعداد للركون في "القرنة" من اجل الاصطياد او الايقاع بافضل الاصدقاء. تغيير الموقف اذا كان سيضر الموقع وأكثر اذا كان سيحسن الموقع. تغيير الإئتلافات الداخلية صبح مساء. امس كان يقول كذا واليوم يقول النقيض. وفي المقابل اعتبار المؤيدين "طابو" لدى "الزعيم"- جوقة تنشد له كلما قال حرفاً. كل ذلك لا يجعل السياسة منفرّة للنساء فقط بل يجعلها منفرّة لاوساط واسعة ونزيهة تريد قوانين لعب نزيهة وتريد اجواء لعب مختلفة.
طبعاً هذا الحديث يدور فقط عن الشارع الاسرائيلي اما لدينا فالحال هو تمام التمام. (جيد ان لدينا جارة، الشارع الاسرائيلي من اجل ان تصل بعض الكلمات الى الكنّة). ولذلك وبالترافق مع الحملة لزيادة التمثيل النسائي يجب ان نقوم بحملة من اجل رد الاعتبار للسياسة. من اجل ان يكون في هذا المجال، الاهم في حياة الناس، اناس مؤهلون وذوو مصداقية اخلاقية. وبرأيي ان العملية متبادلة: زيادة التمثيل النسائي يساهم في رد الاعتبار السياسة، ورد الاعتبار للسياسة يساهم في زيادة التمثيل النسائي.