رحل وزير الداخلية السوري غازي كنعان تاركا وراءه تساؤلات وتكهنات ليس من الحكمة الإجابة عنها بشكل حاسم في ظل عدم وجود معلومات. لكن ما لا شك فيه أن رحيل كنعان هو الإشارة الأسوأ على مدى الأزمة المتفاقمة التي يعيشها الحكم السوري منذ احتلال بغداد ثم اغتيال الحريري، وتداعي التحديات والتهديدات من كل جانب.
ليس أخطر من هذا الوقت كي تتعرّض فيه سورية إلى هزة عنيفة وكبيرة تتمثل برحيل أحد رموز النظام في ظروف غامضة مثيرة للشبهات. وربما ليس من المبالغة القول ان هذه اللحظة هي من أصعب اللحظات التي يعيشها النظام السوري منذ عقود، وربما قد تكون أخطر من "الحرب الداخلية" التي اندلعت بين النظام وبين جماعة الاخوان المسلمين في بداية الثمانينات. فقد وصلت التهديدات الأميركية إلى مرحلة مقلقة، تظهر من خلال الجدل الدائر في واشنطن اليوم حول الاحتمالات المطروحة للتعامل مع النظام السوري، ومنها الضربات الجوية وملاحقة من تعتقد أنهم يمثلون القاعدة أو قيادات المقاومة العراقية داخل الأراضي السورية، مما يؤثر على شرعية النظام وتماسكه الداخلي. بينما يذهب فريق متطرف في السياسة الأميركية إلى ضرورة البحث عن بدائل للرئيس بشار داخل "البيت العلوي".
المطالب الأميركية من النظام السوري تقوم على تنازلات خطيرة تتناقض مع فلسفة النظام الأيديولوجية وميراثه السياسي، وهو الأمر الذي من الصعوبة بمكان أن يمر على الشعب السوري دون أن يضع مصداقية الحكم على المحك ويصل به إلى مرحلة مترهلة من القبول بالشروط الأميركية-الإسرائيلية. من جهة أخرى، هناك سؤال حول درجة امتلاك الحكم السوري للعقلانية والمرونة التي تتطلبها عملية التحول ابتداء من الموقف تجاه العراق والوجود الأميركي هناك، مرورا بالقضية الفلسطينية والفصائل التي تدّعي واشنطن أن دمشق تحتضنها، وصولا إلى المعادلة اللبنانية والموقف من حزب الله، وأخيرا إلى برنامج الحكم الداخلي على الصعيد السياسي والاقتصادي؟ هذه الملاحظة يدركها حتى أنصار التجديد والتطوير داخل النظام السوري، إذ يقول لي بعضهم: "مشكلتنا أنّ المطالب الأميركية لا تقف عند حد معين، فهي تسير من شرط إلى آخر وصولا إلى مرحلة الوقوع التام تحت الهيمنة الأميركية"!
ما سبق، أي الموقف الرافض للخضوع للابتزاز الأميركي، قد يسجل -لدى اتجاه كبير من المعارضة العربية- للنظام السوري. كما ويدرك كثير من المعارضين السوريين أن الأجندة الأميركية تجاه سورية ليس من أولوياتها، ولا حتى من مطالبها الحالية، ما يتعلّق بحقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية. في المقابل، ما لا يسجل للنظام السوري، وربما يسجل عليه، أن هذا "الموقف المعلن" من الولايات المتحدة وإسرائيل يتوازى مع سياسات مفعمة بالأخطاء والزلات، سواء على صعيد العلاقة مع لبنان أم على صعيد الداخل السوري. وهو ما يعني أن على المعارضة العربية اليوم أن تتعلم جيدا من "الدرس العراقي" قبل الاندفاع الأيديولوجي وقبل عملية حشد الجماهير وتعبئتها ضد العدوان الأميركي المحتمل!
الحديث عن لبنان قد يطول وليس اوانه، وربما تختلط فيه الأوراق كثيرا، وإن كان هناك إقرار من قيادات سورية رسمية -ولو تلميحا- بحجم الأخطاء والخطايا التي ارتكبت في لبنان، لكن الحديث الأهم والأخطر هو حول الوضع الداخلي السوري، وهو "المحك" العملي للرهان على صلابة وقدرة النظام السوري على مواجهة أي تهديد أو تحد خارجي محتمل.
لقد كان الطموح كبيرا قبل مؤتمر حزب البعث القطري الأخير، وسمعنا -آنذاك- من المتحمسين أنّ هذا المؤتمر سيضع سورية على مفترق طرق، وأن هناك مراجعة حقيقية وتحولات جذرية ستحدث على صعيد المصالحة الوطنية والانفتاح السياسي وتصليب الجبهة الداخلية، لكن شيئا من هذا لم يحدث! فقد خرج المؤتمر بنتائج مخيبة غير مقنعة، وبقيت الحالة الداخلية تراوح مكانها، لكن مع تأزم أكبر بين المعارضة الصاعدة والحكم. وامتدت الخيبة إلى الشارع الذي تسوده حالة من القلق الشديد من الوضع الحالي بما يلقي بأعباء أخرى على حياة الناس اليومية ويصيب الاقتصاد وفرص الاستثمار بأضرار كبيرة.
مازال الناس، وتيار في الحكم والمعارضة، يؤمنون برغبة الرئيس الصادقة بالإصلاح، لكن أحد أبرز المعوقات -كما يرون- يكمن في "الحرس القديم" الذي يتخوف من تداعيات الإصلاح على احتفاظه بالحكم. أما التخويف من "البديل الإسلامي" الذي طالما تم التلويح به، فلم يعد مقنعا للبيت الأبيض. ويبدو الخيار الوحيد للرئيس الأسد إذا ما أراد الخروج من الأزمة الحادة هو تقديم تنازلات كبرى؛ إما على صعيد الرضوخ للشروط الأميركية-الإسرائيلية، أو على صعيد إعادة الاعتبار للحياة السياسية التعددية التي تعيد إنتاج الجبهة الداخلية.
كل الاحتمالات توحي أن سورية لا تقترب من مفترق طرق بل تقف عليه!
m.aburumman@alghad.jo