في أثناء زيارة قصيرة قمت بها للصديق د. محمود عباسي ولمجلة الشرق عرض عليّ مسألة أدبية أثارتها القارئة الحصيفة أمل... وهي يهودية عراقية ما زالت تحافظ على تعشقها للعربية، والمسألة هي: ما معنى "أربعًا في أربع" في موشح ابن المعتز الذي مطلعه:
أيها الساقي إليك المشتكى قد دعوناك وان لم تسمعِ
ونديمٍ همت في غرته
وبشرب الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق اليه واتكا وسقاني أربَعا في أربَع
قلت: إنه يقول إن النديم سقاه أربع كؤوس في أربع مرات متتالية (والمتعارف أن تقديم الكأس كان ثلاثا كقول الشاعر أبي نواس:
حتى تغنّى وما تم الثلاث له
حلو الشمائل محمود الثـنيّـات
فهو يريد أن يؤكد على سَوْرة شرابه وشدة سكرته.
وهذا الموشح نسب خطأ إلى ابن المعتز (861-908م)
وسآتي على ذلك بعد أن استوفي مسألة "أربعًا في أربع".
قال لي الدكتور عباسي: سأدعك تحادثها هاتفيًا لأن لها رأيًا آخر أحب أن تسمعه.
عرّفها الدكتور إلي وإلى نشاطي في اللغة والأدب، فله على ذلك جزيل الشكر، ثم قدمني إليها لأقول لها شرحي ورأيي.
قالت: هذا الموشح كان عندنا في العراق، وكنت أسمعه، وأسمع المغنين يلفظون "أربَعًا في أربَع" – بفتح الباء في المرتين – والصحيح في رأيي أن حركة الباء هي الضم" أربُعا في أربُع" ، فالأربُع هي جمع رُبْع - بمعنى القدح أو المكيال الذي كانوا يشربون به عندنا في العراق – بلد ابن المعتز – وأما الأربُع الثانية- فهي الأحياء او الأنحاء جمع (رَبْع).
قلت لها: إن الباحث إذا كان جادًا لا يرفض رأيًا إلا بعد أن يتيقّن.
وبعد تقليب المسألة ودراستها تبين لي:
أولا: أن جمع الرُّبْع – المكيال – هو أرباع ، وليس أربُعًـا (بالضم).
ثانيًا: لماذا نكلف هذا النديم المعشوق الذي هام الشاعر بغرّته، ويريد أن يشرب الخمرة من راحته، إلى أن يتجول معه في كل ربع وناحية، وما ضرورة هذا التنقل في أبيات الموشح؟!
أعود إلى هذا الموشح الذي أحفظه عن ظهر قلب منذ أن علمنا إياه أستاذ العربية في الصف الثامن، وقد ذكر لنا يومها أنه لابن المعتز.
لكني بعد أن اطلعت على ديوان ابن المعتز (ج 2، ص 476 – طبعة دار المعارف وبتحقيق د. محمد بديع شريف). قرأت أن المحقق قد وجد الموشح هذا في مختارات البارودي ، ويقول :
"لعل البارودي أخذه مع ما اختاره من ديوان ابن المعتز المطبوع في بيروت سنة 1332 للهجرة " ونحن لم نعلم المصدر الذي استند إليه طابع هذا الديوان.
ومهما يكن فإن نسبة هذا الموشح لابن المعتز لا ترقى إلى اليقين لعدم شيوع هذا الفن من الشعر في عهد الشاعر أولاً"
ومع ذلك أيضًا يثبت المحقق الموشح، ويشكل "أربعًا" وبالفتح في المرتين.
أما كتاب "دار الطراز – في علم الموشحات" تأليف ابن سناء الملك وتحقيق د. جودت الركابي (ص 100) فلم ينسب الموشح لأحد. لكن المحقق شرح في الحاشية أن هذا الموشح هو لابن زُهر. ومن الجدير ذكره أنه لم يشكل النص وتركه مفتوحا للمتلقي.
عدت إلى كتاب "الموشحات الأندلسية" – تأليف د. محمد زكريا عناني (سلسلة دار المعرفة ص 254) فإذا بالموشح مذكور على أنه لابن زُهر (الحفيد) (المتوفى سنة 595 هـ).
يشكل المحقق النص حرفًا حرفًا، ويرى أنها" أربَعًا في أربَع – بالفتح في الكلمتين، ويوثق لنا أن الموشح وارد في "المطرب من أشعار أهل المغرب" لابن دحية (ص 200) ، وأنه في كتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي (ج 4 ص 40) ، وفي كتاب "توشيع التوشيح للصفدي (ص 126) ، وفي كتاب (عيون الإنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة (ص 521) - وقد وجدت في هذا الكتاب بالذات أنه للحفيد أبي بكر بن زُهر، ولم يطبع النص مشكولا ، حتى نرى رأيه في لفظة (أربع).
أما نسبة الموشح لابن المعتز فقد ذكرها كامل الكيلاني في كتاب "نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي " ط القاهرة 1924 ص 227" فهو يقول :
"فقد أنشأ ابن المعتز تلك الموشحة الفذة في القرن الثالث – أي في نفس القرن الذي اخترع فيه مقدم بن معافر موشحاته في الأندلس...
ولا أدري على أي مصدر اعتمد ، وهو العلاّمه الذي يشهد له.
لكن المصادر القديمة كلها تثبت أنها للحفيد بن زُهْر وقد أشرت إلى بعضها آنفًا.
وأضيف هنا (معجم الأدباء) لياقوت الحموي الذي جعل الموشح لمحمد بن عبد الملك بن زهر (ج 18 ص 219 والكتاب كله مشكول وهو بتحقيق مرغليوث) ولم ترد لفظة (الحفيد) لديهحيث يقول إنه ولد بإشبيلية، وانفرد بالإجادة في نظم الموشحات "التي فاق بها أهل المغرب على أهل المشرق" وقد توفي أول دولة الناصر محمد، وفي النص هنا نجد "أربَعا في أربَع" – بالفتح في اللفظتين.
أخلص إلى القول إن المصادر التي كان فيها شكل الكلمات وضبط الحروف جعلت الفتح في كل مرة. ولم أقع على ضم الباء في أي منهما، وفي أي مصدر.
أما نسبة الموشح لابن المعتز فخطأ في رأيي. وقد اعتمدت على ما سبق من المصادر.
يضاف إلى ذلك أكثر من تساؤل:
· لماذا لا نجد موشحًا آخر لابن المعتز؟ وهل هو موشح يتيم؟
· وثانيًا: كيف نفسر قول لسان الدين بن الخطيب في كتابه (الإحاطة في أخبار غرناطة) ج 4 ص 225:
"ومما قلته في الموشحات التي انفرد باختراعها الأندلسيون..." يقول (انفرد باختراعها)،
فهل يمكن أن يقول ذلك دون أن يكون لكلامه بيّنة ، وهو الذي جمع كل شاردة وواردة، وقدم كل فائدة وعائدة عن عصره الذي نحنّ إليه.
موقع الكاتب: http: //www.geocities.com/faruqmawasi