*زوبعة الكنيست القادمة ستكون في فنجان الشأن الداخلي الاسرائيلي والحلبة الحزبية، من دون أية ابعاد سياسية عامة*
يفتتح البرلمان الاسرائيلي، الكنيست، يوم الاثنين القادم دورته الشتوية، في ظل رهان على استمرار الدورة حتى نهاية شهر آذار/ مارس المقبل، موعد انتهائها الرسمي، أم انه سيتم قطعها للتوجه، الى انتخابات برلمانية مبكرة قد تجري في اشهر الربيع، بدلا من خريف العام 2006.
بخلاف عن الدورة الشتوية السابقة، التي كانت صاخبة، فإن صخب هذه الدورة، وهي الاساسية في العمل البرلماني السنوي في اسرائيل، سيتركز بالاساس على التحركات الحزبية، وكل موقف أو تحرك على مختلف الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية سيكون رهينة المصالح الحزبية للكتل، وايضا على مستوى النواب كافراد.
والمعركة الأهم التي سيدور حولها العمل البرلماني في هذه الدورة، هي معركة اقرار الميزانية، بدءا من الاسبوعين الأولين للشهر القادم، وحتى نهاية العام الحالي، إذا نجحت الحكومة في اقرارها.
وفي ما يلي نستعرض الملامح الاساسية للدورة الشتوية البرلمانية.
معركة الميزانية
كما جرت العادة فإن الحكومة الاسرائيلية تطرح على جدول اعمال الكنيست في يومها الأول من دورتها الشتوية ميزانية الدولة للعام المقبل لاقرارها بالقراءة الأولى، وتطرح الى جانبها ما يسمى بـ "قانون التسويات"، وهو تجميع لسلسلة قوانين واوامر وانظمة وزارية وادارية، تسعى الحكومة من خلالها تنفيذ مشروع الميزانية، وهو اجراء غير ديمقراطي بموجب اعتراف المحكمة العليا الاسرائيلية، كونه يجمد قوانين، ويوقف العمل بقوانين أخرى، دون البحث بها بشكل تفصيلي.
أما بحث الميزانية واقرارها بالقراءة الاولى، فهو يتأجل لعدة ايام او اسابيع حسب موازين القوى للحكومة، وإذا لديها الاغلبية اللازمة لاقرارها، وحصل ان اضطرت الحكومة لتأجيل اقرار الميزانية بالقراءة الاولى لأشهر، إذ يسمح القانون باقرار الميزانية العامة حتى اليوم الأخير من شهر آذار/ مارس من كل عام، وفي حال لم تقر الميزانية تسقط الحكومة تلقائيا، ويتم التوجه الى انتخابات برلمانية جديدة في غضون 90 يوما.
وبعد اقرار الميزانية بالقراءة الأولى، بمعنى خطوطها العريضة، يتم الانتقال لبحثها اكثر تفصيلا في اللجان البرلمانية المختلفة، وبشكل خاص في لجنة المالية البرلمانية، ومن ثم تعاد الى الهيئة العامة للكنيست في الايام الأخيرة من العام الجاري، لاقرارها بالقراءتين الثانية والثالثة الاخيرتين.
وعلى الرغم من ان حكومة اريئيل شارون اقرت في شهر آب/ اغسطس الماضي ميزانية فيها الكثير من الاجحاف بحق الشرائح الفقيرة والضعيفة، وهي ميزانية اعدها وزير المالية السابق بنيامين نتنياهو وطاقم وزارته، فإن الحكومة نفسها قد تبادر الى اجراء بعض التعديلات الطفيفة، من باب رمي بعض الفتات القليل جدا للفقراء، في اطار ما يسمى اسرائيليا، "ميزانية انتخابات"، بمعنى ان الميزانية تحاول ان تجمّل نفسها بشكل مصطنع امام الشارع البسيط، تهميدا لموسم الانتخابات، ولكن الميزانية التالية التي تقر للعام الذي يليه، تنتزع الفتات واكثر، وهذا امر اصبح خارج المراهنات، لأنه عادة يعيشها الشارع الاسرائيلي بعد كل انتخابات.
من الضروري الاشارة الى ان موضوع الميزانية والقضايا الاجتماعية هي قضايا شبه هامشية في معركة الانتخابات البرلمانية في اسرائيل، والموضوع الأبرز هو الموضوعي الامني السياسي، ولهذا فإن القوائم الانتخابية من بين الاحزاب الصهيونية، التي تحاول الظهور بقالب المدافع عن حقوق المسحوقين تواجه السؤال الابرز، "اين تصنفون انفسكم في الساحة اليساسية؟"، و"ما هي اجوبتكم على القضايا السياسية؟"، فمثلا حين خاض عمير بيرتس، رئيس اتحاد النقابات الاسرائيلية، الانتخابات على رأس قائمة مستقلة في الجولتين السابقتين، كان يضطر في نهاية معركته البرلمانية ان يطرح الموضوع السياسي، الذي كان يحاول تجنبه، في محاولة للكسب من قطبي الساحة السياسية.
ولهذا فإن الحكومة، ولنقل على وجه الخصوص حزب الليكود برئاسة اريئيل شارون، سيواجه سلسلة مطالب تتركز بالاساس بالشرائح الفقيرة والمتوسطة، باستثناء كتلة واحدة، هي كتلة شينوي، برئاسة تومي لبيد، التي تصنف نفسها على انها ذات توجه اقتصادي صقري مناصر لكبار رؤوس الاموال، وحتى الشرائح المتوسطة، على ابعد حد.
وقد بدا شارون يفاوض الكتل البرلمانية بشكل غير مباشر، في محاولة لكسب قاعدة تأييد أوسع، وقبل هذا فإنه يعمل على ضمان الالتزام الحزبي في كتلته البرلمانية، بعد نجاحه في اللجنة المركزية في الليكود، ويسعى الى انهاء "حالة التمرد"، التي واجهاها منذ الدورة الشتوية السابقة وحتى الشهر الماضي، وعلى ما يبدو فإن شارون حقق انجازا في هذا المجال، ويستطيع ان يدون في مفكرته، ان 40 نائبا من كتلة الليكود سيقفون جسدا واحدا لتأييد الميزانية، ولكن قد يشهد مناورة هامشية من وزير المالية بنيامين نتنياهو، الذي سيرى ان الحكومة عدّلت في بنود الميزانية لضمان الفتات للفقراء، ولكنه في نهاية الأمر سينصاع لقرار الكتلة ويؤيد الميزانية.
وامام شارون الآن كتلتين اساسيتين يريد ضمان تاييدهما، وهما كتلة حزب "العمل" الشريكة في الائتلاف الحكومي، وكتلة "شاس" الاصولية المعارضة، الى جانب خمسة نواب كتلتي "ديغل هتوارة" و"اغودات يسرائيل"، الاصوليتين من الاشكناز، وثلاثة نواب انشقوا عن كتلهم، وهذا مجتمعا يترواح ما بين 66 نائبا الى 79 نائبا، كحد اقصى، من أصل 120 نائبا.
ولكن الطريق لن تكون معبدة امام شارون الى هذا الحد، فهو سيواجه مفاوضات "مضنية"، تخيّم عليها كاميرات الاعلام وميكروفوناته وصحفه، وعامل الاعلام لوحده يجعل المفاوضات "اصعب"، في محاولة لتسجيل النقاط لدى جمهور الناخبين.
"العمل" و"شاس" والميزانية
يستعد حزب "العمل" في هذه الايام للانتخابات الداخلية لرئاسة الحزب، التي ستجري في التاسع من الشهر القادم، تشرين الثاني/ نوفمبر، ولهذا فإن شكل تحرك "العمل" في داخل حكومة شارون سيكون مرتبطا بنتائج الانتخابات، فهي بخلاف عن الليكود، من المستبعد جدا ان تُحدث أي مفاجأة في نتائجها، التي هي شبه مضمونة وبفارق كبير لرئيس الحزب الحالي شمعون بيرس.
وقد أعلن بيرس مسبقا انه إذا استجابت حكومة شارون لشروط حزبه فإنه لا يرى أي سبب لمغادرة الحكومة قبل انتهاء ولايتها الرسمية في خزيف العام القادم، وهذا لا نستطيع اعتباره ورقة ضمان لشارون، ومن شروط بيرس اجراء تغييرات في سلم اولويات الحكومة بشأن الميزانية، وصرف ميزانيات على الشرائح الفقيرة والمتوسطة، في اطار "محاربة الفقر"، الى جانب شروط سياسية مثل دفع العملية السياسية الى الامام.
وكما ذكر سابقا فإن شارون نفسه، ومعه وزير المالية الجديد ايهود اولمرت، الذي يريد الظهور اليوم كـ "روبن هود الاسرائيلي"، سيعملان على اجراء بعض التعديلات لصالح الفقراء، وطبعا في موسم انتخابات، فإن حزب "العمل" لن يرضى وسيطلب المزيد من التعديلات، وعلى الأغلب سيجدون صيغة وسطية، تنقذ بيرس وحزبه من "ورطة" انتخابات برلمانية مبكرة، حزب "العمل" ليس مهيئا لها في الاشهر القليلة القادمة.
ولكن حتى وإن انصاع "العمل" وأيد الميزانية، فما من شك انه من اصل نوابه الواحد والعشرين سنجد نائبين على الأقل يعارضان الميزانية، وهما رئيس اتحاد النقابات، "الهستدروت"، النائب عمير بيرتس، وزميلته في الكتلة البرلمانية المنحلة، عام "حاد"، التي انضمت الى كتلة "العمل".
أما كتلة "شاس" الاصولية فإنها تترفع في هذه الايام عن امكانية دعم الميزانية، ولكن ايضا هذه ليست ورقة طلاق كلي، لأن لهذه الكتلة التي "صمدت" رغما عنها، في مقاعد المعارضة لمدة ثلاثة اعوام، بحاجة لتحقيق شيء لجمهوري ناخبيها في عام الانتخابات، والمقصود في جمهوري ناخبيها، هو الجمهور الاصولي الشرقي (الحريديم السفراديم)، بما في ذلك المؤسسات والمعاهد الدينية التابعة لهذه الحركة، والجمهور الثاني هو جمهور الشرائح الفقيرة من الطوائف اليهودية الشرقية، وابرز ما تستطيع الكتلة تحقيقه في هذا المجال هو رفع طفيف لمخصصات الاولاد، كون ان جمهور "شاس" هو من الجمهور الذي يكثر الولادة بين اليهود.
ومن عادة كتلة "شاس" ان تعلن موقفها الاخيرة في اللحظة صفر قبل موعد التصويت في الكنيست، وقد يكون شكل تاييدها إما بالتصويت المؤيد المباشر، او من خلال الامتناع عن التصويت، وكلاهما يصب في صالح الاغلبية التي يسعى لها شارون، كون امتناع "شاس" يقلل من حجم المعارضة.
وبقدر ما يتقرب شارون من كتلة "شاس"، بقدر ما يبتعد عن كتلة "شينوي" العلمانية المتشددة المعارضة، التي تطالب بالاستمرار بسياسة نتنياهو الاقتصادية، إلا ان نتنياهو نفسه سيكون في ورطة، إذا ما قرر ان يناور ضد شارون، في اعقاب التجاوب مع بعض طلبات جمهور حركة "شاس" المحسوب على اليمين، الذي يسعى نتنياهو للحصول على دعمه مستقبلا.
ومن المستبعد ان يواجه شارون خلافات جدية مع النواب الخمسة من الاصوليين الاشكناز، الذين عادة يحصلون بسرعة على مطالبهم الضيقة المتعلقة بجمهور ناخبيهم المحدد، وقد يحظى شارون، كما ذكر سابقا، بتأييد ثلاثة نواب انفصاليين، أحدهم الوزير السابق يوسيف باريتسكي المنشق عن كتلة "شينوي"، ودافيد طال، المنشق عن عمير بيرتس، بعد ان رفض الانضمام لحزب "العمل"، وهو في الاصل من كتلة "شاس"، وميخائيل نودلمان، المنشق سياسيا عن الكتلة اليمينية، "يسرائيل بيتينو"، فهؤلاء الثلاثة غير معنيين اساسا بانهاء ولاية الكنيست، مع علمهم انهم لن يعودوا اليها بعد الانتخابات القادمة، وفي هذا المجال من الضروري الاشارة الى ان نودلمان، وهو اساسا من حزب "يسرائيل بعلياه" المنحل بزعامة الوزير السابق نتان شيرانسكي، هو الذي بادر للتمرد على كتلته اليمينية المتطرفة لاسباب سياسية، فهو ايد خطة اخلاء مستوطنات قطاع غزة.
العمل البرلماني والانتخابات
عدا الميزانية فإن النواب وكتلهم البرلمانية سينشغلون "مع ساعات اضافية" في الاستعداد للانتخابات البرلمانية، ففي كل واحدة من الانتخابات البرلمانية الثلاثة الاخيرة كان عدد النواب الجدد يفوق 40 نائبا، بمعنى ان 40 نائبا حاليا على الأقل يشعرون اليوم انهم سيكونوا خارج الحلبة السياسية والعمل البرلماني، وقد يرتفع هذا الحدد أكثر في الانتخابات القادمة، لأن 16 نائبا على ألاقل من نواب الليكود لن يعودوا الى الكنيست بسبب نظام الانتخابات الداخلية لليكود، وهذا الأمر سيعكس نفسه على شكل عمل النواب.
أضف الى ذلك فإن رفع نسبة الحسم الى 2% بدلا من 1,5% من مجمل المقترعين، سيجعل بعض الكتل البرلمانية في خطر، كونها حصلت في الانتخابات الماضية على أقل من 2%، او في حدود هذه النسبة، ولهذا فإنها ستسعى الى ابرام تحالفات انتخابية تضمن لها عودة، ولو جزئية، الى الكنيست، وهذا الملف قد يصبح اكثر سخونة إذا ما قرر الحزبان الاكبران، او الكتل الثلاث الكبرى، التجاوب مع مبادرة تلوح في الافق تهدف الى رفع نسبة الحسم الى 2,5%، فهذا سيشكل خطرا حتى على الكتل الفاعلة بين العرب، وسيمنع ظهور قوائم انتخابية جديدة قد تكلف مرشحيها ميزانيات طائلة من دون أي أمل للوصول الى مقاعد الكنيست.
عمليا فإن زوبعة الكنيست القادمة ستكون في فنجان الشأن الداخلي الاسرائيلي والحلبة الحزبية، من دون أي ابعاد سياسية عامة، وقد يكون هذا ذريعة لحكومة شارون للابتعاد عن أي مسار سياسي يدفع في العملية السياسية الى الأمام.