*تلعثم قادة الحزب وغياب الخطاب السياسي البديل يبقي الحزب بقيادة بيرس في حضيض غير مسبوق*
من المفترض ان تجري في التاسع من الشهر القادم تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، الانتخابات لرئاسة حزب "العمل" الاسرائيلي، لاختيار رئيس ثابت للحزب، بعد أن غرق الحزب في أزمة قيادة دامت خمس سنوات، تقلب فيها خمسة رؤساء للحزب، ثلاثة منهم خلال عام واحد، وليس من المؤكد ان الانتخابات القادمة ستخرجه من أزمته، خاصة وان الاستطلاعات تؤكد ان شمعون بيرس، ابن الثانية والثمانين من عمره، سيفوز بهذه الانتخابات لولاية تستمر اربع سنوات.
إن أهمية حزب "العمل" في الخارطة السياسية في اسرائيل، تكمن في أنه الحزب المؤسس لاسرائيل، فهو الحزب الذي انفرد بالحكم، تقريبا، طيلة السنوات التسع والعشرين الاولى لقيام اسرائيل، وهو الذي قاد حروب اسرائيل التوسعية، بدءا من العام 1948 مرورا بالعام 1956، والعامين 1967 و1973، وهو ايضا الذي وطّد الترسانة العسكرية والنووية الاسرائيلية، ويكفي ان نذكر في هذا المجال ان المبادر والأب الروحي لمشروع اسرائيل النووي هو شمعون بيرس.
وكان حزب "العمل" على مدى سنوات طوال إما حاكما، او بديلا للحكم، وشارك الليكود في الحكم في خمس حكومات، آخرها الحكومة الحالية، وكانت العودة الأبرز لحزب "العمل" في العام 1993، حين قاد حكومة ائتلاف ضئيل مدعومة من خمسة نواب من كتلتين ناشطتين بين الفلسطينيين في اسرائيل، وخاض مسار اوسلو مع منظمة التحرير، وبعد ان سقط في انتخابات 1996 اعطاه الشارع الاسرائيلي فرصة أخرى في العام 1999، بزعامة ايهود براك، الذي قاد حكومة من دون ائتلاف متين، وأعلن انه يريد التقدم في المفاوضات مع الفلسطينيين وسوريا، ولكنه أفشل كلا المسارين، وقاد عدوانا خطيرا على الضفة الغربية وقطاع غزة ولا يزال مستمرا منذ خمسة اعوام.
وامام هذا فقد تلقى الحزب ضربة قاصمة في الانتخابات البرلمانية في مطلع العام 2003، لتتحول قوته الى نصف قوة حزب "الليكود" البرلمانية، بعد ان كان الحزب الاول والأكبر من دون منازع على مدى عشرات السنين في اسرائيل.
إن موضوع سقوط وعودة حزب "العمل" الى الحكم، هو موضوع قائم بحد ذاته، متشعب وتتداخل فيه الكثير من الأمور، ولكن العنوان العريض لهذه القضية هو ان حزب "العمل" الذي شق طريق اوسلو، أحجم عن قول الحقيقة كاملة، وتلعثم في خطابه السياسي كثيرا، فقد اعتمد الاتفاقيات المرحلية، ولكنه ملأ طريق الاتفاقيات المحتملة مستقبلا بالالغام، فهو لم يوقف الاستيطان، لا بل واصل دعمه لها، كما لم يوقف مصادرة الاراضي، وواصل تقييد حركة الفلسطينيين، كما لم يستفد "العمل" من حقيقة ان غالبية الاسرائيليين أيدت اوسلو، بل كان يخاف من الاقلية اليمينية الصارخة في وجهه، ولم يدفع العملية السياسية الى الامام، وقد يكون هذا ايضا نتيجة قناعات داخلية لديه.
وهذا التلعثم وضعه امام اسئلة حرجة جدا امام الشارع الاسرائيلي، الذي لا نستطيع القول إنه رفض سياسة الحزب، فالرأي العام في اسرائيل اراد مسار اوسلو، وحتى وإن سقط حزب "العمل" عن السلطة في العام 1996 على دوي الانفجارات في تل ابيب والقدس، إلا هذا الشارع نفسه فرض على حكومة الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو ان تواصل السير بهذا المسار، وحينما تلكأت، اسقطها الاسرائيليون عن الحكم واعاد حزب "العمل" برئاسة ايهود براك الى الحكومة، ولكنه واصل سياسة التلعثم، ولم يتعلم من الدرس السابق، الى ان قاد الى الانفجار.
ولم يتغير هذا النهج حتى اليوم، فحزب "العمل" عاجز عن الظهور بخطاب سياسي يتميز به عن خطاب اليمين، وان يسوّق هذا الخطاب في الشارع الاسرائيلي لاقناعه بأنه هو البديل، لقد غرق حزب "العمل" في مخطط شارون، المسمى "فك الارتباط"، مع علم حزب "العمل" المسبق بالاهداف الحقيقية لهذا المخطط، لا بل انخرط هذا الحزب في حكومة اريئيل شارون، وهو ينفذ اليوم سياسته، تحت غطاء تأمين الانسحاب من قطاع غزة.
وعلى الرغم من هذه الخطوة، التي ظهرت بداية وكأن "العمل" انقذ خطة الانسحاب بانضمامه الى الحكومة، إلا ان الشارع الاسرائيلي لم يكافئه، ولا تزال استطلاعات الرأي تقول ان حزب "العمل" لن يحقق طفرة في قوته الانتخابية في الانتخابات المقبلة، فهو قد يتقدم بعدد قليل من المقاعد، وحتى انه قد يحافظ على قوته الهزيلة في حال تغيّرت الاصطفافات الانتخابية، وأكثر من ذلك فقد دلّ استطلاع جديد، نشر في الاسبوع الماضي، على ان حوالي نصف المنتسبين لحزب "العمل" يفضلون شارون رئيسا للحكومة القادمة، وهذا الاستطلاع لوحده، حتى وإن اعتقدنا انه ليس جديا الى هذا الحد، إلا انه يعبر عن مدى ازمة القيادة المستفحلة في حزب "العمل".
إن مجرد توجه المنتسبين لحزب "العمل" لاختيار بيرس، وهو في هذا العمر المتقدم في السن، ليقود الحزب لاربع سنوات زيادة على عمره، انما يعكس افتقاد الحزب لشخصية جذابة للشارع الاسرائيلي، فمرّة كان هذا الحزب، يسمى بـ "حزب الجنرالات" نظرا للعدد الكبير من جنرالات الجيش الذين كانوا ما أن يخلعوا البزة حتى ينضموا لهذا الحزب، أما اليوم فهو منهك في صراع داخلي بين الشخصيات القيادية، وأيا من المرشحين الثلاثة امام بيرس، ليس بامكانه ان يقود الحزب، وان يجرف الاصوات في الشارع الاسرائيلي.
كما أن الحزب لم يستطع بعد الخروج من فضيحة تزوير عشرات آلاف الانتسابات للحزب، ويجري الحديث عن أكثر من 30 ألف منتسب، غالبيتهم الساحقة من فلسطينيي 48 لم يعرفوا انهم انتسبوا للحزب.
وعمليا هناك ثلاثة عوامل تبعد حزب "العمل" عن سدة الحكم، وهما العاملان السابق ذكرهما، غياب الخطاب السياسي البديل الواضح، وغياب الشخصية القيادية الجذابة، أما العامل الثالث، هو غياب القوة البرلمانية ذات التوجه اليساري الصهيوني التي بامكانها ان تنضم لحزب "العمل" في ائتلاف حكومي لتقود التغيير.
هناك الكثير من العرب في العالم ممن يراهنون على حزب "العمل"، ولكن السؤال الأهم الذي يجب ان يسبق هذه المراهنة هو: "هل حزب "العمل" معني باحداث تقدم جدي وفعلي يقود الى سلام عادل كما يطالب به الفلسطينيون كحد ادنى؟".
إن بريق شعار جائزة نوبل للسلام الذي يتدلى على صدر بيرس منذ العام 1994 لا يجعله "حمامة سلام"، فبيرس نفسه وقف في وجه ايهود براك، في العام 2000، حينما سرت شائعات حول مبادرة بيل كيلنتون، وقال بيرس في حينه: "لو كنت انا مكان براك لما أعطيت الفلسطينيين ما اعطاهم"!.