صدر مؤخرا كتاب جديد في أدب السيرة الذاتية هو ذكريات الأدب والحب للقاص الروائي، صاحب الآداب سهيل إدريس.
وسهيل، كما لا يخفي، كان قد أصدر روايات الحي اللاتيني والخندق الغميق وأصابعنا التي تحترق وبضع مجاميع قصصية وكتبًا نقدية.
أما كتاب السيرة الذاتية الذي صدر عن دار الآداب فيقع في مائة وأربع وثمانين صفحة، أشغلت مائة صفحة تقريباً (هي في نهاية الكتاب) علاقته مع الأديبين المعروفين أنور المعداوي وسعيد تقي الدين، حيث يعترف الكاتب بفضلها عليه في مسيرته الأدبية.
يتحدث الكاتب في الصفحات الأولى الثمانين عن أصل عائلته ومولده، وعن أسرته والحي الذي سكنه، كما يروي لنا حكاية الجبة والعمامة ومشيخته التي سرعان ما تخلى عنها - هذه الحكاية كنا قد طالعناها روائياً في الخندق الغميق، ونتعرف كذلك على بدايات غرامياته، وعمله في الصحافة، وخاصة في الصياد.
إن لغة سهيل في هذا الكتاب تتصف بالسلاسة والانسياب، ويعمد فيها إلى السخرية والتسلية والفكاهة الرشيقة (وأحياناً بدون ربط أو مبرر)، وهي على العموم تدفعنا إلى الابتسام.
غير أن هذه الفكاهة/ السخرية تتجاوز حدودها وحرارتها، وبالأخص في حديثه عن والده- إذ يقول:
"وكان لأبي كرش أنفر منها (؟- ف)، لأنه لم يكن يتورع عن تنفيسها بريح يطلقها بين الفينة والفينة دون تحرج حينما يتنقل في المنزل. وسمعت أمي ذات يوم، بعد أن فرغنا من غداء تجشأ منه أبي بصوت عال، تقول بتقزز أعوذ بالله! ما هذا؟ من فوق؟ ومن تحت؟ فضحك أبي طويلاً.... " (ص12)
وأنا لا أدري ما هي الوظيفة الأدبية لحشر هذه القصة في السيرة، وماذا يبغي كاتبنا أن يثبت؟
هل هي واردة للتدليل على نهم أبيه مثلاً؟
هل هي حكاية لمجرد الحكاية؟
وما هي علاقتها بالمبدع أصلاً؟
إن الصراحة والصدق في الوصف من مستلزمات الترجمة الذاتية - وهذا حق- ولكن شريطة أن يكون لهذا البوح الصادق مبرر ما، وظيفة ما، توصيل ما.
ولنتابع هذا البوح الصادق؟!:
"والحقيقة أنني لم أكن أحب أبي، إذ كنت أشعر بأنه يعيش جواً من النفاق، وجاء وقت بدأت أحس أن أبي يحيا حياتين... واكتشفت ذات يوم اصطحابه لشاب جميل الطلعة، أشقر الشعر، كنت أراه أحياناً في المتجر الملاصق لمتجره على المرفأ. وقد دخل مع هذا الشاب إلى غرفة الاستقبال في بيتنا التي كان لها باب خارجي، وبعد قليل سمعت صوت انغلاق الباب الداخلي لهذه الغرفة وصوت المفتاح يدور في قفل الباب، فناديت أخي الأكبر، وحكيت له، فهز رأسه كأنه فهم ما أقصد إليه، وتمتم بعبارة فيها لهجة استنكار، وتكررت هذه الحادثة..." (ص 12،13)
إن المؤلف بهذه الجرأة التي لا تحسب له يحاول أن يبرر لنا سبب ذكر هذه الوقائع اللوطية بقوله:
".... خلف ذلك عندي نفوراً من العلاقات الشاذة بالرغم مما ورد من تبريرات لهذه العلاقة تتعلق بالتأثير الجيني والتكوين الجسماني لبني البشر."
لا أراني بعد هذا المسوّغ إلا سائلاً:
وهل هناك شك لدى أحد أنك من المفروض أن تنفر من علاقات كهذي؟!
ثم لماذا هذه التتمات في إخراج التبريرات؟
إن العلاقات الغرامية الشخصية التي ساقها لنا المؤلف كانت عادية، على المستوى الفني-، أستثني من ذلك حبه المتهيب في فترة مشيخته، فهذه تشي لنا بالكثير، وكأنها تقول لنا إن الإنسان يبقى إنساناً؛ وكذلك حبه المتهالك الذي قلد فيه روميو وجولييت، فوقع عن النافذة، وهذه أيضاً تشي بتأثير الثقافة على سلوك الأديب.
أما سائر القصص الحبّـيــّـة فلم يكن لها مبرر فني أو حتى ما يبعث الدفء.
كم توقعت أن ألمح التحفز الوطني بارزاً أكثر لدى الكاتب وهو الذي عرفنا مواقفه في طليعة المد القومي، لكنه آثر أن يستطرد فيما هو مجرد قصص عاشتها بيروت كحكاية السردوك (ص 35) التي اعتبرتها عائلة إدريس (عائلته) مثالاً للشجاعة والاعتزاز بالنفس، مع أن القارئ يمكن أن يعجب بشخصية زوجة الدركي الرجولية.
* * * * *
في القسم الثاني من السيرة- عن المعداوي وتقي الدين- إفادة بالغة للقارئ يفيدها من مجمل النقاشات والاعترافات المتبادلة.
ويرى الشاعر محمد علي شمس الدين أن هذه المراسلات من أكثر فصول الكتاب متعة وفائدة، تلك التي أثبت إدريس بعضًا من مراسلاته مع شيخين من شيوخ الأدب في الأربعينيات والخمسينيات (انظر دراسته عن السيرة في صحيفة الرياض السعودية عدد 9/12/2002.)
نتعرف عبر هذي الرسائل أولا علي شخصية المعداوي الناقد، فنلمس، مع ذلك - موقفًا غريبًا علي سلوكياته - وذلك في سخريته من المستشرق ليفي بروفنسال الذي أحجم عن إقرار أطروحة سهيل للدكتوراة " الرواية العربية الحديثة من 1900- " 1940، وذلك في قوله: " رحم الله امرءاً عرف حده".
جدير بالذكر أن أطروحة الدكتوراة كانت قد أجيزت فيما بعد بإشراف بلاشير في السوربون (ومن الغريب أنها لم تصدر في كتاب كما عودنا سهيل أن يفعل).
كانت الرسائل المتبادلة بين سهيل والمعداوي كذلك مبعث اهتمام الناقد المصري أحمد محمد عطية في كتابه الهام: أنور المعداوي، عصره الأدبي ، فقد أثبت جميع هذه الرسائل وعلق عليها.
وقبل أن نصحب المؤلف إلى عالم سعيد تقي الدين ومماحكته ارتأى أن يحدثنا عن أقاصيصه التي كانت مثار اهتمام كل من المعداوي وتقي الدين، فأطلعنا على ملاحظات المعداوي وشاكر خصباك وسيد قطب (وهذه الأخيرة لم تكن إيجابية) فناقش كلا منهم، ثم ما لبث أن وضع أمامنا مقدمة أقاصيص أولى التي كتبها ، كما وضع أمامنا نموذجاً من قصصه المبكرة ليطلعنا على بداياته - حسب رأيه.
وفي ظني أن هذا الاقتباس الذاتي هو مستحدث، وقد يكون من نافل السيرة الذاتية ، إلا أنني وجدت في القصة المثبتة (الشَّعر المسرَّح) مستوى فنياً راقياً، وذلك في التركيز على تسريحة شعر...وتفصيل المشاعر والأحاسيس التي ترافق الجزئية، فكانت النهاية انفراجة أو لقطة تحول ، أو مفاجأة موفقة، وفي تخريجها ما يدل على مراس في الكتابة.
قلت من نافل السيرة..، وإلا فأين التعليق الجديد، وما دورها في نسيج السيرة؟ أين هو منها؟ وما هي العبرة من وراء إثباتها؟
وتبقى صفحات سعيد تقي الدين عذبة المناكفات والحواريات بغمزاتها وخفة ظلها، إلى حد أنني تساءلت- ألم تكن هذه الصفحات معدة لتكون في كتاب خاص نحو : ذكرياتي مع سعيد تقي الدين، فجاء المؤلف وضمها لإضافة أو لإخراج كتاب؟ ثم أين سائر الأدباء في هذه الفترة، ولا مشاحّة أن لسهيل علاقات أدبية لا حصر لها، وثمة منهم من يشار إليه بالبنان.
وإذا كان في هذه القراءة بعض القسوة فإن هناك دافعين يشفعان لي بذلك:
استعداد الكاتب لتقبل النقد برحابة صدر ، كما دلل على ذلك في الكتاب وفي أكثر من موقع، واعترافي بأنني من أولئك الذين نهلوا من معين مجلة الآداب في مطلع شبابهم، فتركت المجلة في نفسي وفي كتابتي كبير أثر، فحفزتني على أن أقول ما هو رأيي، وصاحب المجلة من دعاة هذه الحرية التي ننادي بها.
ختاماً لن أضن على القارئ ببضعة أبيات كنت قد كتبتها انتصاراً للبنان أيام محنته، وهي من قصيدة يا لبنان:
يا لبنان اشتقت إليك، وقلت: متى آتيك
أتفقد دور النشر وأرتاد بيوت العلم
وأنظر حتى أعلي هام الأرز
أقضي صيفاً، بل ليلاً فيك
وأزور الأحباب
(سهيل منهم)
وعلى ذكر سهيل، كيف " الآداب " وتأديب الناس على الطرقات؟
وفي الختام، أرجو أن يكون في الجزء الثاني ما يزيدنا متعة وإبداعا.