بما أن سنة الانتخابات بدأت تدّق الأبواب فمن الطبيعي أن يبدأ الانشغال في إسرائيل، مع اقتراب افتتاح الدورة الشتوية للكنيست في أواخر شهر تشرين الأول الجاري، بالأحزاب والحركات السياسية، سواء تلك التي في الائتلاف الحكومي برئاسة "الليكود "أو التي في المعارضة.
ولا يقتصر هذا الانشغال على احتمالات هذه الحركات والأحزاب في الانتخابات الوشيكة، وإنما يتعدى ذلك للتخويض في هويتها السياسية بعد أن عبرت إسرائيل، العام 2005، وفق قراءة الكثير من المراقبين، "انقلاباً سياسياً" ترتب، ضمن أشياء أخرى، على خطة "فك الارتباط" التي طرحها رئيس الوزراء أريئيل شارون واصطاد سياسيًا من خلالها ليس أطرافًا خارجية، أجنبية، فحسب وإنما اصطاد أطرافاً إسرائيلية أيضًا، لم يكن حزب "العمل" الوحيد بينها في خانة "اليسار" تحديداً.
ويبدو أن الأمر الأبرز حتى الآن في نتائج الانشغال السالف هو ذلك الذي يحيل إلى اختفاء "اليسار الإسرائيلي" (الصهيوني) عن الواجهة، في أعقاب اذدنابه الكامل لخطة شارون السالفة، من جهة وعلى أثر هروبه إلى الأمام من استحقاقات تحديد البحث حول هويته، من جهة أخرى متصلة.
في مقال يغلب عليه الطابع الاستمزاجي حول هذا الاختفاء نشرته الصحافية ليلي غاليلي في "هآرتس" أخيرًا قالت الكاتبة، بلهجة فيها قدر كبير من المفارقة الساخرة، إن من بين القلائل الذين ما زالوا يؤمنون بوجود يسار مؤثر في إسرائيل بنيامين نتنياهو، وزير المالية المستقيل "فهو في الواقع يؤمن بوجود اليسار بكل قلبه. وفي خطابه الأخير الذي ألقاه في مركز الليكود تحدث عن أنه إذا خسر الليكود الحكم ـ فسنحصل على بيريس وبيلين أو الطيبي". وتابعت: "ذات مرة كان ذلك (التهديد بعودة اليسار إلى سدّة الحكم) يُستقبل في اليمين كتهديد فظيع ومخيف. إلا أنه الآن يبدو أشبه بمقطع ساخر وهزلي. حتى اليسار نفسه لا يؤمن بأن ذلك قد يحدث. وهو أيضا لا يرغب في ذلك تماما. والاستطلاع الذي أُجري فور الانتهاء من فك الارتباط أظهر أن 50 في المائة من ناخبي ميرتس قد عبروا عن رغبتهم في استمرار وجود الحكومة الحالية".
أما الوضع في حزب "العمل" بهذا الخصوص فحدّث ولا حرج كما يقولون. ولعل النتائج الصافية التي توصل إليها الاستطلاع بين منتسبي هذا الحزب، المنشور يوم الجمعة 14/10/2005 في "هآرتس" (ومنها، لا على سبيل الحصر، أن غالبية منتسبي حزب "العمل" يريدون أن يخوض حزبهم الانتخابات العامة القادمة في قائمة يترأسها شارون) بليغة كفايتها في التعبير عن مداليل ما نقصد، بما يعفي أي مراقب أو محلل حتى من عناء أية تفاصيل أخرى.
وفي سياق آخر لمقال غاليلي نفسه نعثر على السبب الحقيقي الواقف وراء هذا الاختفاء، السبب الذي يظهر أن أزمة اليسار الإسرائيلي راجعة أكثر شيء إلى أزمة هويته.
فهذا اليسار الذي يشخّص عن اليمين، خلافًا لليسار في دول العالم كافة، فقط بموجب موقفه من "عملية السلام" الفلسطينية- الإسرائيلية انقاد بشأن هذه العملية وراء الرواية التي صاغها رئيس الوزراء الأسبق إيهود براك، وهو نفسه أحد "رموز" هذا اليسار، وسيطرت بكثافة، حتى لا نقول بإطلاقية، على السجال السياسي والإعلامي.
وكما سبق أن قال أحد الباحثين فإن كل ما جرى الكشف عنه عقب فشل قمة كامب ديفيد لم يكن أكثر من جملة مزاعم تبسيطية تقاسمها اليسار واليمين على حد سواء، وهذان شكلا معًا الإجماع في السجال السياسي الإسرائيلي. أما المطالبة بإجراء نقاش عمومي معمّق حول الأسئلة الأساسية، يمكن عبره مواجهة سحب الضباب الداكنة التي دأب على نشرها الناطقون الرسميون بلسان المؤسسة الحاكمة في مناسبات من الصعب حصرها، فكانت من نصيب أفراد قلائل فقط ضاعت أصواتهم هباء في الزحام.
كذلك فقد سبق لباحثة ثانية أن وجهت نقدها الشديد إلى هذا "اليسار الصهيوني" على خلفية أخرى هي تمسكه بالاحتلال. وفي الوقت الذي أكدت فيه أن القيادة السياسية لمعسكر السلام الإسرائيلي صاحبة تجربة ومراس طويلين "في تسيير وجهة معظم المعارضين للاحتلال نحو طريق الحفاظ على الوضع القائم"، فإنها لفتت إلى أن هؤلاء الأشخاص هم نفسهم الذين بشروا في أثناء سنوات أوسلو بأن الاحتلال انتهى عمليًا وإن ما تبقى هو بضع سنوات من المفاوضات فقط. وهم، برأيها، خبراء في إقناع كل من هو مستعد لإصاخة السمع لهم بأن الملك ليس عاريًا و"أن المشكلة كامنة فقط في عيوننا". وشدّدت على أنه إذا لم تقف الأكثرية في إسرائيل بالمرصاد لهم فالاحتمال الأقوى هو أن ينجح هؤلاء الخبراء في مهمتهم مرة أخرى (ومؤداها: "الحفاظ على الوضع القائم").
للتخفيف من حدّة هذه الصورة القاتمة ترى الباحثة نفسها المارّ ذكرها أنه للمرة الأولى منذ أوسلو، وبالارتباط مع آثار قمة كامب ديفيد والانتفاضة، نشأت حركة سلام إسرائيلية آخذة في التوسع وهي عصيّة على طوع القادة السياسيين لمعسكر السلام من "رموز" اليسار الصهيوني. والنواة الصلبة لهذه الحركة مؤلفة من مجموعات احتجاج محلية عديدة أصبحت فاعلة منذ بدء الانتفاضة. وتذكر المؤلفة منها حركات "يوجد حد" و"شجاعة الرفض" و"بروفيل جديد" و"ائتلاف النساء من أجل سلام عادل" و"تعايش" و"كتلة السلام" و"الغسيل الأسود". والمبدأ الأساسي الهادي لهذه المجموعات هو أن الكفاح من أجل السلام وضد الاحتلال هو كفاح إسرائيلي- فلسطيني مشترك.
وبالعودة إلى مقال غاليلي لا بدّ أن نتوقف عند ما يقوله البروفيسور في الفلسفة السياسية يوسي يونا، بشأن الأحاديث في اليسار حول الصحوة التي ولدتها الانتفاضة، والتي يعتبرها مُسلية بالنسبة له.
"الصحوة في اليسار لايت، حسب قوله، ليست صحوة حول هوية الفلسطينيين الفعلية وإنما صحوة حول هوية اليسار (الإسرائيلي). فإن هوية هذا النوع من اليسار، الذي هو الأغلبية، تتغذى من تصوّر ذاتي زائف، والآن هذه الهوية ترضع، تماما مثلما هي الحال في اليمين، من ميتافيزيقية فك الارتباط باعتبارها معزوفة لا ينبغي أن تتوقف. لديهم حل: شارون أيضا سيضرب العرب ويقوم بخطوات أحادية الجانب ستؤدي حسب رأيهم إلى التسوية الدائمة. هذه الحكاية هي التي تجعلهم يبقون في البيت. وهذا هو اليسار الذي سيحسم أمره مع اليهودية في التوتر القائم بين الدولة اليهودية والديمقراطية. لا فرق هامًا بينه وبين اليمين. عندما يرغب هذا اليسار في تمييز نفسه يجلس في البيت ويثرثر حول غير اللطفاءـ العرب وحول أعضاء مركز الليكود، الليكودستان، التي هي في قاموسنا الداخلي كلمة مرادفة للشرقيين. ايهود باراك أعطاهم تبريرا للعيش بسلام على الأقل مع هذا المقت للفلسطينيين. اليسار الصهيوني جاء لترسيخ كوننا غرسة غريبة في المحيط. الشيفرة الجينية لا تسمح بوجود يسار حقيقي. كانت هناك فقط ظروف سمحت بالتميز عن اليمين والآن ظهرت ظروف أخرى لطمس معالم هذا التباين". وبالتالي فإن النتيجة الطبيعية لذلك هي اختفاء هذا اليسار، وإن كان في نشوء يسار آخر على يساره ما يعوّض جزئيًا عن هذا الاختفاء الذي يبدو في التجربة الإسرائيلية اختفاءً شبه حتمي.