تشبيه الرئيس جورج بوش "الحرب على الارهاب" بالحرب الباردة ضد الشيوعية هي محاولة اخرى فاشلة لتبرير السياسات العدوانية للحكومة الاميركية، تماماً كمحاولاته غير المقنعة بادعاء الوحي الرباني كمصدر لغزواته.
هذه التشبيهات والادعاءات، للاسف، تتجاوب مع طروحات اليمين الاميركي المتطرف وجزء من القاعدة المسيحية اليمينية التي يتوجه لها بوش عادة لتدعيم قراراته الخارجية والداخلية. لكن مدى نجاح هذه الادعاءات في انقاذ شعبية بوش المتهاوية لدى الرأي العام الاميركي يعتمد، اولاً واخيراً، على مدى نجاح سياساته في افغانستان والعراق، وفي المنطقة العربية عموماً، اي ان هذه المحاولات اليائسة ستصطدم بواقع الحالة العراقية، وحتى الافغانية، خاصة وان خسائر اعصاري كاترينا وريتا عمقت الخسائر الاقتصادية والسياسية للغزو.
لكن بوش لم يكن يتوجه الى الرأي العام الاميركي فقط في خطابه الاخير، الذي مثل محاولة لاعطاء بعد سياسي ايديولوجي للحرب على الارهاب، يهدف الى توحيد الشعب الاميركي والغرب عموماً ضد خطر "الاسلام الراديكالي"، كما اسماه بوش، بل استهدف الخطاب العالم الاسلامي، محاولاً احداث شق بين "الجماعات الراديكالية" و"المسلمين المعتدلين"، حسب رأيه.
نتوجه اولاً إلى تحليل "النموذج السياسي" الذي سعى الخطاب الى ترسيخه سياسياً وايديولوجياً، اي اعتبار "الاسلام الراديكالي" الخطر الجديد الذي حل مكان "الشيوعية العالمية".
التشبيه ليس جديدا، لكنه الاوضح منذ مجيء الحزب الجمهوري، مدعوماً ومدعماً بطواقم "المحافظين الجدد"، الى الحكم اواخر العام 2000. فبعد احداث 11/9، قالت كونداليزا رايس، وكانت في حينها مستشارة للأمن القومي: "لقد كنا نبحث عن عدو يوحدنا، وها هو قد اتى"! لكن النموذج الجديد لوصف الحالة العالمية مغلوط، ان من حيث المفاهيم الفلسفية، او من حيث المفاهيم "الجيوبوليتيكية" والاستراتيجية.
فحتى اذا سلمنا ان الفكر السياسي الايديولوجي لاسامة بن لادن و"القاعدة" يهدف الى شن الحرب على الدول والافراد الذين يراهم خارج "اطار المؤمنين والملتزمين من المسلمين"، طبعاً حسب تعريف منظري تنظيم القاعدة لـ"الاسلام" ولـ"من هو المسلم الحقيقي"، حتى لو سلمنا بذلك فإن النموذج الذي اراد بوش وفقا له تقسيم العالم لا يعطي تفسيراً للعداء والمعارضة الواسعة في العالم- بما في ذلك الدول غير المسلمة- للسياسات الاميركية.
صحيح ان بن لادن قسم العالم الى شقين من "المؤمنين" و"الكفار"، لكنه تحدث عن الظلم الناتج عن السياسات الاميركية، وان بتفكير المتعصب الذي لم يجد تقسيماً افضل من ذلك الذي تمليه عليه رؤيته الدينية المتشددة لوصف الحالة العالمية. ولا شك ان هناك الكثيرين في العالم الاسلامي ممن يؤيدون رؤية بن لادن المشوهة، لكن الاغلبية تحدد توجهاتها وفقاً لرؤيتها لآثار ونتائج السياسات الاميركية، وهذا ما لا يريد بوش استيعابه لان له مصلحة في انكار المظالم الواقعة على الشعوب جراء سياسات القوة الاميركية.
ان ما يريده بوش ومنظرو السياسة الاميركية هو الدفع باتجاه التطرف الديني بين المسلمين، وما حديثه عن "المسلمين المعتدلين" الا محاولة ملغومة لتوسيع الهوية بين المسلمين المعتدلين، كما يراهم، و"الاسلام الراديكالي".
هذه الهوية بين معظم المسلمين والتفكير المتطرف موجودة، لكن بوش لا يقصد التفريق بين تفكير معتدل وتفكير متطرف، لانه يتهم قصدا كل من لا يتفق مع سياسته بالتطرف الديني، اي ان مفهوم "المسلم المعتدل" بالنسبة لبوش هو "المسلم المستسلم" للارادة الاميركية. وهذا خلط مقصود، لانه اولاً واخيراً امتداد لمقولة بوش الشهيرة والمقيته: "يجب على العالم ان يختار؛ فإما انتم معنا او مع الارهابيين".
سياسة بوش بتقسيم العالم بين "مؤيدين لسياسته" و"ارهابيين" ليست جديدة، لكنه حاول ان يخاطب من اسماهم بـ"المسلمين المعتدلين"، ضمن رؤية مشوهة وكاذبة للحالة العالمية. فقد شمل سورية وايران بنفس الوصف الذي استعمله لتنظيم القاعدة، وهو يعلم تماماً ان سورية لا تقدم على أنها نظام ديني، وان كلا من ايران وسورية تعاونتا مع واشنطن ضد "القاعدة". والخلط المقصود يهدف ايضاً الى نزع الشرعية عن اي عمل مقاوم، سواء أكان علمانياً ام مستنداً الى رؤية دينية، اي ان اي تنظيم عراقي او فلسطيني، علمانياً كان او دينياً، لا يختلف في رؤية بوش عن القاعدة.
بناء على ما تقدم، فإن توجه بوش الى "المسلمين المعتدلين" يشمل تهديداً ضمنياً، يحذر من مغبة تأييد اي شكل من اشكال المقاومة للسياسة الاميركية وللاحتلال الاميركي في العراق او الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين.
لم يبق للرئيس بوش الا ان يصدر امراً بتشكيل هيئة اميركية تحدد من هو "المسلم المعتدل" ومن هو "المسلم الراديكالي المتطرف"! لكن لا نعلم كيف تستطيع الهيئة تصنيف المسيحيين العرب، ومن في ايران وتركيا! فهل يكون الدكتور جورج حبش "مسلماً متطرفاً" ام ماذا؟!
لكن تشبيه بوش "الحرب على الارهاب" بالحرب الباردة ضد الشيوعية هو ايضاً صحيح اذا ما تم تطبيقه على السياسات الاميركية، لانها في معظم الاحيان متطابقة.
فخلال الحرب الباردة وصمت اميركا كل حركة تحرر وطني بـ"الشيوعية"، وكل حكومة لا تتفق مع سياساتها مائة بالمائة بـ"الماركسية"! ألم تطح المخابرات الاميركية بالدكتور مصدق في ايران في خمسينيات القرن الماضي بحجة كونه شيوعياً؟ وألم تنظم وكالة المخابرات المركزية الأميركية (C.I.A) انقلاباً ضد سلفادور الليندي في تشيلي في السبعينيات بنفس الجهة؟ لم يكن اي من مصدق او الليندي شيوعيين، لكن ذلك لم يكن مهماً في اوج الحرب الباردة.
اما تشبيه "الاسلام الراديكالي" بالشيوعية، فهو مماثل لتصوير الشيوعية إبان الحرب الباردة بأنها وحش شرير لابد من ابادته. وكما طالت الحرب الباردة الشيوعيين وغير الشيوعيين، تطال الحرب على الارهاب كل من يسميهم بوش "المسلمين الراديكاليين"، وكل الاصوات المتنافرة مع السياسات الاميركية. التشبيه في النهاية يبقى مغلوطاً من حيث المفهوم الاستراتيجي، الا اذا كان اسامة بن لادن يمتلك ترسانة اسلحة نووية واراضي شاسعة!
ان ذلك الجزء من الخطاب المتعلق بالتحذير من استيلاء "القاعدة" على دول عربية واسلامية ليس له علاقة بالواقع، لكنه يخدم الادارة الاميركية في توسيع الإنفاق على التسلح على حساب الوضع الاجتماعي المتدهور في اميركا.
فالرسالة إلى الشعب الاميركي واضحة: لا تطالبوا بالانسحاب من العراق وخفض الميزانية "الدفاعية"، لان بن لادن قد يغزو العالم، وحتى الفضاء.
lamis.andouni@alghad.jo