ليس ثمة داع، ولا حتى مهما الجدل حول ما إذا كان البعد العربي القومي هدفا حاضرا بحد ذاته ضمن مجموعة الأهداف الاميركية المقصودة في عملية تدمير العراق منذ مراحلها الأولى -أي منذ حرب تحرير الكويت العام 1991، وحتى احتلال العراق بشكل مباشر في العام 2003- رغم أن العراق كان قد بلغ فعلا في فترة ما قبل حرب العام 1991 مرحلة الدولة العربية التي تستحق وصف المركز-النموذج. لا نعني بذلك القدرات العسكرية العراقية المتنامية، التي قيل إنها باتت تشكل قلقا أو تهديدا حقيقيا لإسرائيل بل وللولايات المتحدة ذاتها، فالنموذج العراقي "الملهم" استمد قوته الحقيقية في تلك الفترة من النتيجة المترتبة على القوة العسكرية، أي القدرة على تحدي الهيمنة الإسرائيلية والأميركية في المنطقة مع إسباغ الصفة القومية العربية على تلك المواقف، بما يعنيه ذلك من قدرة على استثارة الجماهير أو تعبئتها بشكل يتناقض ويضر بالمصالح الأميركية الحيوية في المنطقة العربية، بغض النظر عن مدى صدقية هكذا دعاوى قومية على أرض الواقع، لا سيما عند النظر إلى حجم المعاناة والمآسي التي كان لابد لشعوب عربية أن تحياها وتتوارثها باسم تلك الشعارات.
لكن بغض النظر عن مدى وضوح ذلك الهدف (الإجهاز على البعد القومي للنموذج العراقي) فقد تحققت هذه النتيجة فعلا بعد غزو العراق، لا سيما عندما سقطت العاصمة العربية الأقوى منذ مرحلة الاستقلال ودحر الاستعمار الغربي على الأقل، بغداد! عند هذا النقطة لم يبق من دولة تحمل أيديولوجيا وشعار القومية العربية سوى سورية. ورغم أن دعوات أميركية واضحة حول منطقية وضرورة استئصال البعث من سورية كما من العراق، لكن ما كان يميز سورية فعلا هو مظهرها ومواقفها المتمردة نسبيا بالنظر إلى الملامح الأميركية للمنطقة. بالتأكيد ليس المقصود هنا تمردا على دعوات الإصلاح والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، إذ إن مثل هذه الدعوات –ورغم أن الواقع يثبت يوما بعد يوم أنها مجرد دعوات- تكاد تختفي من الخطاب الأميركي الموجه إلى سورية! التمرد السوري كان فيما يتعلق بفتح آخر متاريس إدماج إسرائيل في المنطقة باتجاه شرق أوسط كبير وجديد، مضافا إلى ذلك وقف دعم المقاومة العراقية التي بدت بعض آخر الأوراق، ولربما آخرها، لتحسين ظروف التفاوض مع الولايات المتحدة، وإسرائيل من خلفها، فيما يتعلق بالإقرار بالمشروع الأميركي الإقليمي. وهكذا، بين ضرورات الشرعية الداخلية، ومحاولة حشد التأييد العربي الشعبي في مواجهة عزل أميركي متصاعد، استعادت سورية –بغض النظر عن مدى جاهزيتها وقدرتها- موقع المركز القومي العربي، الذي يبدو أنه سيكون الضحية الأولى لتقرير ميليس.
بداية، ثمة قضية مركزية في الحديث عن تقرير ميليس وهي وجوب أن نتوقف، رسميين أو مواطنين سوريين أو متعاطفين مع سورية وقلقين بشأنها، عن مهاترات ما إذا كان التقرير منحازا أو مسيسا... إلى آخر تلك الأوصاف التي نستجدي بها العطف والمساندة؛ فحتى لو كان كل ما نقوله صحيحا، يظل السؤال الذي لا يستحق الإجابة: من نخاطب، وممن نستجدي العطف والمساندة؟ أما السؤال الأساس، والملائم للانطلاق لمواجهة تبعات التقرير فهو: من ذا الذي أدخل الدب إلى كرمنا، أولسنا نحن أنفسنا، بسياساتنا "الوطنية" و"القومية"؟!
الإجابة عن هذا السؤال الأخير هو جوهر تأثير تقرير ميليس. صحيح أن الولايات المتحدة وغيرها ستستغل التقرير للإجهاز على آخر حَمَلة شعارات القومية العربية، وهو حزب البعث السوري، لكنه صحيح أيضا وبنفس القدر أن كثيرين لن يأسفوا على غياب الحزب وتراثه،وثمة ما قيل حول مناقشة الحزب ذاته تغيير اسمه قبل مؤتمره القطري الأخير؟! وهكذا، فإن التأثير الحقيقي لتقرير ميليس يظهر فعلا -وحتى لو لم يقم المجتمع الدولي بمجموعه بأي إجراء سلبي ضد سورية- في الترحيب والغبطة اللبنانية بالتقرير، على المستوى الشعبي كما على المستوى الرسمي! فقد انكشف غطاء شعارات القومية العربية، وبات علينا مواجهة حقيقة عمق الهوة التي باتت تفصلنا لا عن بعضنا كدول -قيل دوما إنها مصطنعة- بل عن بعضنا كجماعات وأفراد داخل الدولة ذاتها.
ربما أن تقرير ميليس هو تاريخ إعلان نهاية حزب البعث في سورية وفي الوطن العربي تاليا، بعد أنهى الغزو الأميركي وجوده في العراق، لكنهما –التقرير والغزو- مناسبة لنا للاعتراف بانتهاء عصر "قومية الشعارات" التي لم تعد قادرة على جمعنا، لا سيما عندما غابت سطوة الحديد والنار، وأننا بتنا بحاجة فعلا إلى فكر وممارسة جديدين يفضيان إلى بعث حقيقي للأمة، من حيث هي أمة ذات مصير وطموح مشترك، تفرضه ضرورة صون كرامة الإنسان وحقوقه ورفاهه، وليس العكس أبدا.
manar.rashwani@alghad.jo