على الرغم من الانتقادات وعلامات الاستفهام التي ترددت وأحاطت بزيارة عمرو موسى إلى العراق، فقد حققت هذه الزيارة نتائج إيجابية إلى الآن، وتمكن موسى من تحقيق تقدم ملموس، وكسر الحاجز النفسي بين القوى والأطراف المختلفة. كذلك، أعادت الزيارة العرب مرة أخرى إلى العراق، من خلال الدور الصحيح والمدخل المناسب، وهو الدفع باتجاه التفاهم والحوار بين الطوائف والقوى العراقية الرئيسة، وتجاوز الأحداث التي كانت تدفع إلى القطيعة والاحتراب الداخلي.
لم تكن ردود الفعل السلبية والأصوات المشككة داخل العراق فقط، بل ثمة اتجاه عربي واسع وعريض من الكتاب والمثقفين لم ير في زيارة موسى سوى استجابة رسمية عربية للمطالب الأميركية بضرورة الضغط على السنة العرب ودفعهم للمشاركة في العملية السياسية، والتخلي عن مشروع المقاومة المسلّحة. فالكتاب والمثقفون العرب - في أغلبهم- ينظرون إلى العراق من ثنائية الاحتلال والمقاومة، على قاعدة أن أي توافق أو تساهل مع الاحتلال هو "خيانة تاريخية"، وأن أي مقاومة ومواجهة مع الاحتلال هي "وطنية شريفة". ووفقا لهذا المنطق، فالدستور والعملية السياسية والحكومة القائمة الحالية هي أدوات للاحتلال، وتجميل له ولوجوده في العراق.
الموقف السابق يعكس -في نفس الوقت- رؤية تيار كبير في الشارع العربي، وهو موقف صحيح في سياقه السياسي والتاريخي والإنساني العام، لكنه مخطئ تماما إذا ما قرأنا الحالة العراقية بعمق أكبر، من خلال الوقائع والحيثيات الموضوعية. وفي تقديري، فإنّ غياب القراءة الواقعية العربية للحالة العراقية، ضمن شروط التاريخ والجغرافيا ومعاناة الإنسان، هو جوهر الأزمة التي تزيد المسافة الفاصلة بين العرب والعراقيين اليوم، وتدفع بالشيعة والأكراد إلى خارج المحيط العربي وترمي بهم إلى أحضان إقليمية واستراتيجية أخرى، وتنتقص من قوة السنة العرب وكفاءتهم السياسية في الحالة الراهنة.
وقد لفت انتباهي -من بين آلاف المقالات والخطابات والمواقف السياسية والفكرية العربية تجاه العراق- مقال متميز للمفكر السوري برهان غليون حول إعادة تعريف "الوطنية العربية". والملاحظة التي يلتقطها غليون هي الخطأ الكبير الذي نمارسه عندما نبادر إلى الحكم على المعارضة العربية التي تهادن الاحتلال بالخيانة، ونحكم على نقيضها بالوطنية. فهذا الحكم يقوم على قراءة تتجاوز الشروط والأسباب التي أدت إلى تلك المواقف ودفعت إليها، وهي بالتأكيد شروط قسرية وقاهرة. وفي الحالة العراقية، نتحمل نحن العرب، وبالتحديد المعارضة الشعبية العربية التي تلعب دورا رئيسا في صوغ مواقف الشارع، جزءا كبيرا من المسؤولية عن تلك الشروط، وإلا كيف نفسر الدعم الكبير الذي حظي به النظام السابق من قبل المعارضة العربية، ومؤتمرات مؤازرته بحجة الوقوف في وجه أميركا والكيان الصهيوني، في الوقت الذي لم تلتفت فيه هذه المعارضة إلى أصوات المستضعفين والمعذبين تحت سياط "النظام المناضل!"، ولم تعبأ بالمجازر والدماء وسياسة القمع والرعب والفساد التي كان يحكم بها ذلك النظام؟! وكيف نتوقع ممن كانوا تحت ظلم ذلك النظام وظلامه أن يكون موقفهم من الاحتلال من جهة، ومن الشعوب العربية التي كانت تسير على جراحهم مهللة للقائد "المنتظر!" من جهة أخرى؟! ما هو مقدار المرارة والألم من الموقف الشعبي العربي؟ وما هي القراءة المتوقعة من العراقيين للموقف الرسمي العربي الذي كان يساير الشارع في وضح النهار ويتواطأ مع الإدارة الأميركية في جنح الليل؟!
لم تتوقف أزمة المواقف العربية مع العراق بعد الاحتلال؛ إذ رأى اتجاه عريض من المثقفين والكتاب العرب -وبعض الأنظمة العربية سرّا- العراق بمثابة المستنقع المطلوب لاستنزاف المشروع الأميركي. ولم يلتفت كثير منهم إلى حجم المعاناة والدمار النفسي والاجتماعي والثقافي الذي تخلفه حالة الفوضى الحالية على الشعب العراقي. ولم نجد خطابا فكريا وشعبيا عربيا واضحا، أو مبادرة عربية تدفع إلى حوار داخلي، وتدين عمليات العنف التي تمارس ضد المدنيين.
وفي الوقت الذي كانت تمارس فيه النظم الرسمية العربية حصارا على العراق قبل السقوط، فإن المعارضة العربية حاصرت – ولاتزال- الشعب العراقي، ولم تعمل على بناء قنوات وجسور اتصال مع القوى والجماعات العراقية المختلفة، واكتفت سابقا بتأييد النظام الفاشي وحاليا بتأييد خطابي للمقاومة. واكتفى أغلب العرب بإدانة العملية السياسية الحالية في العراق، دون أن يقدموا بديلا لها أو يتدخلوا لإنجاحها. وعلى النقيض من ذلك، يبدو أن صندوق الشرور الذي انفتح على العراق بدأ يغزو المنطقة العربية؛ فالخطاب الطائفي يجتاح أجزاء من المنطقة العربية، وبدلا من احتواء الأزمة العراقية يبدو أن هذه الأزمة هي التي تبتلع المنطقة العربية!
"الرسالة العربية" الوحيدة التي يقرأها العراقيون هي عدم الاكتراث بالقتلى والدمار والمآسي، وكأن العراق جغرافيا خالية من الإنسان، تتصارع فيها القاعدة وأميركا! بينما يمارس الإعلام العربي، وكثير من القوى السياسية، دورا غريبا منحازا إلى السنة، وكأن الشيعة والأكراد ليسوا عراقيين أو أنهم خصوم! وكأننا نخطط لخسارتهم مستقبلا كما نخسرهم الآن!
بعكس الاتجاه العربي الرسمي والشعبي السابق، تأتي مبادرة عمرو موسى. وهي وإن كانت متأخرة، إلا أنها تخفف من آلام الجرح العراقي النازف، وتفتح المجال لدور عربي في سياق صحيح، يتغلب على هواجس العراقيين وقلقهم، ويعيد جزءا كبيرا منهم إلى المحيط العربي بعد استعادة الثقة المفقودة بينهم وبين العرب. أما القول إن مبادرة موسى تسير باتجاه المصالح الأميركية.. فليكن! إذا كانت مصلحة أميركا تتحقق بالمصالحة العراقية، وتجنب الدمار والتجزئة والحرب الأهلية، ومنع الكثير من الأصوات من الجنوح إلى الطائفية البغيضة.
أطمئن الكتاب والمثقفين العرب أن التيار الغالب والاتجاه العام في العراق هو اتجاه رافض لمنطق الاحتلال والهيمنة الأميركية، وهو يتعامل مع الاحتلال من منطق المهادنة وليس التحالف. وإذا أردنا أن لا نخسر العراق استراتيجيا على المدى البعيد، فيتوجب علينا أن نعود إليه، ونفك الحصار الشعبي والثقافي عنه، ونقترب منه أكثر فأكثر. وعلينا أن نحتكم إلى العقل وليس العواطف والأيديولوجيات؛ ومبادرة عمرو موسى تأتي في سياق العقل وفي الاتجاه الصحيح.
في سياق مواز لموقف المعارضة العربية من العراق، أصدر أول من أمس مثقفون وأحزاب أردنية بيانات تؤكد الوقوف مع سورية في مواجهة الحملة الأميركية وارتفاع مستوى التهديدات بعد تقرير ميليس، دون أية إشارة في هذه البيانات إلى المعاناة الشعبية من الوضع السياسي السوري الداخلي الراهن، فهل ستكرر المعارضة العربية "السيناريو العراقي" مع السوريين؟!
m.aburumman@alghad.jo