لم يحظ العراقيون بأمثال ألكساندر هاملتون وجون جاي وجيمس ماديسون، الذين كتبوا 85 مقالة خلال الفترة من تشرين الأول 1787 وحتى أيار 1788، لا لهدف إلا إقناع "النيويوركيين" (مواطني نيويورك) بمزايا الفيدرالية المقترحة في مسودة الدستور الأميركي آنذاك، عوضا عن الكونفيدرالية الفضفاضة التي كانت تحكم علاقة الولايات الأميركية بعضها ببعض وتحكم علاقتها بالحكومة المركزية أيضا، وبالتالي قبولهم (النيويوركيين) المصادقة على الدستور. بل إن العراقيين لم يحظوا حتى بأمثال "كاتو" مناوئا للفيدرالية ومدافعا عن مزيد من استقلالية الولايات في مواجهة ما كان يخشاه من تسلط للحكومة المركزية. لم يحظ العراقيون، أيا كان موقفهم من الدستور، إلا بخيارين لا ثالث لهما: إما الاستجارة برمضاء الدستور أو الاستجارة بنار الإرهاب أو الحرب الأهلية.
بين هذين الخيارين، وبالرغم من كل الجدل والرفض واتهامات التزوير منذ ما قبل ظهور نتائج الاستفتاء يوم أول من أمس، فقد أقرت مسودة الدستور العراقي كما كان متوقعا، حتى بعد رفضها من قبل ثلاث محافظات، كون إحداها لم تبلغ فيها نسبة الرفض ثلثي المستفتين.
لكن بإقرار الدستور يكون على العراقيين اليوم مواجهة المسألة والقضية الاساس بالنسبة لكل ما يليها، وهي انتصار العراق أو الانتصار للعراق، وليبدو هنا -من ثم- ما إذا كان هذا البلد يملك فعلا آباء مؤسسين على غرار هاملتون وجاي وماديسون، والذين تتجسد قيمتهم الحقيقية التي يستشعرها العالم أجمع كما الأميركيون أنفسهم في أنهم كانوا –من خلال الدستور الأميركي ولاحقا من خلال الأوراق الفيدرالية كمفسرة وموضحة للدستور- يؤسسون لدولة عظيمة، عمادها وحدة الأمة واحترام حقوق الإنسان.
وجود آباء مؤسسين عراقيين، يرتبط بداية وقبل كل شيء في تحديد العراقيين أنفسهم للمقصود بالعراق ومن هم مواطنوه، ووفق أي شروط؟ فبعد مشاركة بلغت نسبتها 63% في الاستفتاء على الدستور، وتأييد 87% منهم لمسودة الدستور في مقابل رفض 21% لها، يظل السؤال: هل سيكون عراق المستقبل هو عراق طغيان الأغلبية واضطهاد الأقلية (طائفيا أو عرقيا أو سياسيا)، أم هو عراق العراقيين المتحدين في الانتماء رغم اختلاف متوقع في الرؤى والتصورات، وقبلها اختلاف في الثقافات والأعراق؟
بالتأكيد، في العراق اليوم إرهاب، يكاد يكون من المستحيل تبرئة طرف طائفي أو عرقي من التورط فيه، لكن هناك مقاومة أيضا. وإذا كان الإرهاب بمسماه إنما غايته الترويع والقتل ليس إلا، فإن للمقاومة التي تكاد تكون في مجموعها عربية سنية عراقية، دوافع أخرى.
إذا ما استبعدنا الخرافة التي يرددها ديكتاتوريو المستقبل القادم، وهي أن البعض قرر الموت لأجل الموت ذاته، منفردا أو مع جماعة من الأعداء والخصوم ضمن عملية انتحارية، وإذا ما عدنا إلى تأكيد بداهة أن العراقيين في غالبيتهم العظمى، من جميع الطوائف والملل والنحل، هم ضد الاحتلال الأميركي، يشهد على ذلك تاريخهم ودورهم جميعا إبان الاحتلال البريطاني؛ من ثم، يبقى الدافع الأوضح والأدق وراء أعمال المقاومة العراقية، أو أغلبها، هو الخشية من التهميش والإقصاء والانتقام.
بعبارة أخرى، فإن القضية المحور التي باتت تواجه عراق ما بعد الدستور، والتي يشترك فيها كل العراقييين المؤمنين بعراقيتهم، سواء أكانوا من مؤيدي الدستور أم من معارضيه، وسواء أكانوا في صف الحكم أم على جانب المقاومة، هذه القضية هي ليست سوى ضمان خلق ديمقراطية حقيقية في العراق، يقع في القلب منها احترام حقوق الإنسان من حيث هو إنسان، وبالتالي احترام حقوق العراقيين كل العراقيين من حيث هم مواطنون، بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى. إنها قضية الشعور بالأمان والانتماء، أفرادا وجماعات وطوائف في إطار البلد الواحد.
القضية ليست في انتصار الدستور العراقي أو إقراره، بل هي في الالتزام بضمان انتصار العراق بجعله وطنا لجميع العراقيين، يتعايشون فيه بكل اختلافاتهم التي لهم الحق الكامل في التعبير عنها. هذا هو الدافع الذي أفضى إلى تبني التعديلات العشرة على الدستور الأميركي المسماة "وثيقة الحقوق"، وهو الركن الذي جعل من أميركا لاحقا أمة عظمى بتنوعها. وهو، أيضا، الجامع والموحد للألمان والفرنسيين والإيطاليين والرومانش -على اختلاف مذاهبهم الدينية المسيحية- في سويسرا. ونجاح العراقيين في تحقيق هذا الانتصار سيجعل منه بحق أنموذجا عربيا وإسلاميا يحتذى على صعيد التعايش والديمقراطية، في منطقة تبدو في أمس الحاجة إلى نصر يتم استلهامه.