وقف الرئيس الايراني، محمود نجاد، امس الاربعاء، على احدى المنصات، حاملا "قلم رصاص ومحاية"، وقرر ان "يمحو اسرائيل" عن الخارطة، ولربما، أو من المؤكد، ان اسم اسرائيل ليس موجودا على خرائط العالم المتداولة في ايران، ولا نعرف كيف سيمحوها، ولكن ما نعرفه ان فرحا كبيرا كان في اسرائيل، امس.
ليست هذه المرّة الأولى التي نسمع فيها مثل هذه الخطابات الملتهبة، التي قد تُفرج صدر الكثير من سامعيها البسطاء وغيرهم، لحظة سماعها فقط، نظرا لما يتابعونه يوميا من اخبار الجرائم والمجازر والقهر والاستبداد الذي تمارسه اسرائيل، سعيا منها لمحو شعب بأكمله عن الخارطة، ولربما عن الوجود.
ولكن هذا انفراج خادع، بعيد عن الحقيقة ويشوهها، هذا انفراج يُسقط الكثير، أكثر فأكثر في بحور الاوهام، وانتظار "الفرج"، الذي انتظره شعبنا على الحدود قبل اكثر من 57 عاما، ولكن "الفرج" لم يتحقق، وما يتحقق هو الأمر العكسي.
لقد تلقت اسرائيل الرسمية، ببالغ السرور والابتهاج، تصريحات نجاد الساخنة، ولربما ان نجاد حظي بدقائق بث في وسائل الاعلام الاسرائيلية اكثر من أي دولة أخرى، فاسرائيل الرسمية بحاجة الى خطابات كهذه لتدعم ايديولوجية التخويف التي تغرق شعبها فيها، "الخوف من الغير والالتصاق بما يقرره حكامها"، هذا أولا.
وثانيا، فهي تخرج الى العالم تلوّح بخطاب رنان كهذا لتزعم "ان اسرائيل في خطر"، وكل ما تفعله هو دفاع عن نفسها، حتى عندما تحاصر شعبا بأكمله، فهي تدافع عن نفسها.
وحتى عندما تجوّع الناس وتقتلهم بالقتل البطيئ فهي تدافع عن نفسها، وعندما تحرم المرضى من الوصول الى المشافي، وعندما تجبر الحوامل على الولادة في العراء عند الحواجز فإنها تدافع عن نفسها.
وعندما تمارس اسرائيل التمييز العنصري ضدنا، نحن الفلسطينيين في اسرائيل، وتحرمنا الحياة الطبيعية والعمل والدراسة وتنفس الهواء النقي، فإنها تدافع عن نفسها.
فلماذا "لا تدافع عن نفسها" حينما تجد نجاد كهدية لها.
احيانا تتفرج، وبالفعل فرجة، على بعض الندوات والخطابات في القنوات الفضائية، والزبد يخرج من افواه بعض الروؤس الحامية، فيدب فيك الحماس وتقفز الى النافذة بانتظار "جيوش الفرج" التي جاءت لتحررنا من الميّة للميّة، فتنفرج اسرائيل مرّة أخرى، اما "جيوش الفرج" فتبقى في بيوتها، هذا إن وجدت أصلا.
ولماذا نذهب بعيدا فنحن هنا، في اسرائيل، يوجد لدينا نجاد ونجادات، فقبل ثلاثة اسابيع كتب محام فلسطيني مقالا لا يعترف في مضامينه بوجود اسرائيل، ويستهتر بمشاركتنا نحن الفلسطينيين في اسرائيل في الانتخابات لبرلمان "الكيان الصهيوني".
ولكن انظروا الى حجم المسخرة، فهذا المحامي الذي لا يعترف بوجود اسرائيل، ولا ببرلمانها، ولا الانخراط في الحياة العامة، هو نفسه تخرّج من جامعات "الكيان الصهيوني"، وعلى شهاداته رسمت شعارات ورموز "الكيان الصهيوني"، وعلى رخصة المحاماة التي تلقاها ايضا من نقابة محامي "الكيان الصهيوني" يوجد رموز كهذه، لا بل انه يدق ابواب محاكم "الكيان الصهيوني" بحثا عن عدالة، "عدالة الكيان الصهيوني"، فلا غضاضة بأن لا يعترف هذا المحامي الوطني، وبحق هو وطني، بوجود اسرائيل التي يعيش فيها ويحمل هويتها وجواز سفرها، ولكن حين يكون الحديث عن مصدر الرزق، فلا غضاضة ايضا، ان يعترف بها عشر ساعات يوميا وستة ايام اسبوعيا في مكتبه.
الرسالة مما سبق واضحة، وأرجو عدم التأويل، فالمسألة ليست نقاشا حول "شرعية" وعدم "شرعية" اسرائيل، وانما نتائج خطابات كهذه.
يخطئ من لا يراهن على الرأي العالمي، فايران نفسها تسعى ايضا لتجنيد رأي عام عالمي، فمهما ارتفع مستوى الضغط الداخلي، فإن للرأي العام العالمي دور في حل الأزمات، لقد خاض الشعب الفيتنامي بطولة اسطورية امام جحافل الاجرام الامريكي، ولكن ما دعمه ايضا هو الرأي العام العالمي الذي أيده، وحتى الرأي العام الامريكي الذي مارس بالضغط على حكومته وساهم في اجبارها على الانصياع لارادة الشعب الفيتنامي.
نجاد وغيره من "النجدات" يدرك الحقيقة الواقعة، وما مثل هذه الخطابات سوى دفعة جديدة للخطاب السياسي الاسرائيلي في العالم، في اطار معركتها على كسب الراي العام العالمي بقوة حكوماته، الذي تزعم فيه ان كل معركتها هي امام ما يسمى بـ "الارهاب العالمي"، الذي نضال الشعب الفلسطيني هو جزء منه، كما تحاول اسرائيل وربيبتها امريكا تسويقه، وتحاول تغييب عدالة القضية الفلسطينية وعدالة نضاله من اجل التحرر.
لقد قرر الشعب الفلسطيني بغالبيته الساحقة اسس الحل الدائم، آخذا بعين الاعتبار الظروف والمعادلات القائمة في هذا العصر، ولا يمكن لشعب بأكمله ان يخطئ.