لم تعد البرامج الدينية مقتصرة على شهر رمضان كما كان الوضع قبل سنوات قليلة، وإن كان رمضان ما زال موسما عملاقا للبرامج الإعلامية الدينية، ولكن البرامج الدينية أصبحت تشكل مساحة واسعة في الفضاء تستحق التوقف.
هناك قنوات فضائية إسلامية متخصصة، أو عامة ذات مرجعية إسلامية، مثل اقرأ، والمجد، والفجر، والمنار، والعالم، والمستقلة، و"سمارت" وغيرها كثير تحتاج الإحاطة بها إلى بحث، وهناك برامج دينية في أغلب إن لم يكن جميع الفضائيات العربية والتي يقال إن عددها تجاوز المائتين.
والبرامج الدينية نفسها تقع في خريطة معقدة في أنواعها وطبيعتها ومصادرها واتجاهاتها، من الغناء والنشيد، والفتاوى، والحوارات والندوات، والبرامج العامة ذات المنطلقات والتوجهات والمرجعيات الدينية.
والإسلام يشكل جزءا كبيرا من موضوعات البرامج غير الدينية أيضا كالمسلسلات والحوارات والتقارير والمعالجات الإعلامية والإخبارية المختلفة، بل إن كثيرا من الإعلانات التجارية تأخذ بحسبانها الجمهور المتدين، فتختار فتيات محجبات للتسويق، وتقدم بعض الفضائيات إعلانات تحض على الصلاة والقيم الدينية والأخلاقية.
لم تعد ظاهرة السخرية والاستهزاء والتشويه الموجهة عمدا إلى الإسلام قائمة في المحطات الفضائية العربية، وتكاد الإساءات تنحصر في إساءة الفهم الذي لا ينطوي على سوء نية، أو ما يعتبر مخالفة للتعاليم الدينية ولكنه لا يحارب الدين اعتقادا وعداوة، بل العكس فإن الطابع العام للفضائيات هو احترام الدين، واستضافة عدد كبير من الشخصيات ومقدمي البرامج الدينية ممن يتمتع بحضور كبير لدى الجمهور الإسلامي، ويلقى قبولا كبيرا، مثل عمرو خالد، وطارق سويدان، وأحمد الكبيسي، وغيرهم كثير، وتلتزم قنوات فضائية عدة بنقل الأذان مباشرة من مكة والمدينة والقدس أو من عواصم الدول التي تعمل فيها الفضائيات.
ومن الظواهر الملفتة في هذا السياق انتشار عدد من الأغاني الدينية على أساس مهني محترف، وتجاوز "النشيد الديني" التي تذاع في القنوات المتخصصة بالأغاني، أو ظهور فتيات محجبات في الفيديو كليب.
والواقع أن التأثير الديني للفضائيات على الجمهور يبدو واضحا لدى المراقب والمتابع لشأن الناس والحياة اليومية، والانطباع الأولي لدي أن هذه البرامج والفضائيات تتمتع بجمهور كبير، وتلقى قبولا واهتماما لدى الناس، وبالطبع فإنه جمهور متفاوت ومتعدد تعدد البرامج والفضائيات نفسها، وهو واقع ينسجم مع الظاهرة الدينية المتنامية والمنتشرة في المجتمعات والدول، ويتوقع أن تواكب الفضائيات وبخاصة بعد استقلالها (نسبيا) عن الحكومات اتجاهات الناس، ويقال دائما إن المسوقين أسبق من الحكومات في معرفة اتجاهات الناس واحتياجاتهم، وربما تعاني الظاهرة الإعلامية الإسلامية من الارتباك والتداخل وتفاوت المستوى، وإن كان يغلب عليها الخطابة والوعظ، أو التوجه للعواطف والوجدان، وتحوز النساء الحصة الأكبر في هذه البرامج، لأن النساء أكثر تدينا وأكثر متابعة للفضائيات.
ولا يتوقع بالطبع لهذه الفضائيات والبرامج أن تتصدى للحملة الإعلامية الأميركية والغربية لأن الفضائيات العربية بمجملها لا تشكل أكثر من نقطة في بحر الفضائيات الغربية، فالولايات المتحدة تسيطر على 80% من الصور المبثوثة في العالم، 75% من الأفلام السينمائية، 90% من الإنترنت، ولكن من المهم ألا تكون متخلفة عن البرامج والفضائيات العامة، فمازالت الفجوة كبيرة، وتحتاج إلى مزيد من الوقت والجهود والإنفاق لردم هذه الفجوة.
ويشكك الأستاذ فهمي هويدي إلى حد التشاؤم في جدوى وأهمية البرامج الدينية لأن الإدارات نفسها في القنوات الفضائية يغلب عليها البعد عن الدين ولا تتعامل بجدية واحترام مع البرامج الدينية، ويقول إن الأمر يشبه أن تكون ثمة صفحة دينية في صحيفة صفراء، ولا معنى للفكرة حتى لو كانت هذه الصفحة جيدة، ويقول إنها سياسات تسويقية من باب مخاطبة الأذواق جميعها، ولا تتناسب مع مكانة الدعوة الإسلامية، وبالطبع فإن الأستاذ هويدي يقصد بعض الفضائيات، ولكن الظاهرة أشمل من ذلك وأعقد بكثير.
ولكن السؤال: هل تتناسب المخرجات الإعلامية مع الإمكانيات والفرص المتاحة؟ الإجابة على الأغلب أن الفضائيات تمتلك فرصا تقنية ومالية أكبر مما يصدر عنها، ومازالت الفرصة مهيأة لتطوير هذه البرامج لتتجاوز الوعظ والوجدانيات والفتاوى، وتتحول إلى إعلام حقيقي يستخدم الصور والتقرير والمقابلات، ويعالج قضايا يومية ومعقدة، ولا يتوقف عند الخيارات السهلة والمباشرة.
والمشكلة التي تواجه معدي ومصممي هذه البرامج هي المشكلة نفسها التي تواجه الفضائيات العربية، وهي الميل إلى الحد الأدنى من الجهد والإنفاق، و"الشلفقة" في العمل، وإغراء وإغواء "الفيديو كليب" والـ"show" تلك الظاهرة التي امتدت من الأغنية إلى البرامج بعامة، واستدرجت الدعاة ومقدمي البرامج إلى الاستعراض والتهريج والمبالغة في الصورة والتسطيح وتملق الجمهور بحثا عن الجماهيرية تحت مظنة الدعوة والتأثير.
بالطبع فلا يمكن المطالبة بالفصل بين البعد التجاري والاستثماري وبين طبيعة البرامج واتجاهاتها، ولكن القاعدة التسويقية ليست حتمية ولا هي خيار واحد، فلكل اتجاه جمهوره، وكما يمكن الاعتماد في التسويق على الإثارة (بكل صيغها وأشكالها ومنها الإثارة الدينية) فإن الرصانة والعمق لها جمهورها ويمكن أن تكون أداة للتسويق أيضا.
ويبقى أن الصورة بمقدار اتساع تأثيرها وإغرائها وسهولتها فإنها أيضا تسطح الفكرة، وتحاصر العمل الإعلامي في خانة من التسطيح والسرعة، ولكن لا يمكن تماما فصل البرامج عن الجمهور، وتحتاج سياسات تصميم البرامج وتخطيطها إلى الموازنة بين القاعدتين: السياسة التي تصنع ثقافة الجمهور واتجاهاته، والثقافة التي تصنع السياسة وتفرض على معدي البرامج اتجاها يلاحق رغبات الجمهور.
وعلى أية حال فإن الاتجاه العام للمجتمعات والثقافة يؤدي الدور الحاسم في مستوى البرامج وجودتها ومدى الاحترام والتقدير والأهمية التي تحظى بها، ويبدو أن الاتجاه الوسطي والأكثر جدية وعمقا مغيب أو أنه اتجاه قليل العدد، وربما يكون الأمران معا، فمن الطبيعي أن يكون الراغبون في الترفيه والتسلية أكثر عددا، ولكن نجاح الرواية الحديثة القائمة على الدراسة والفكر والفلسفة والتوثيق وانتشارها الكبير يؤشر على فرصة نجاح الاتجاه نفسه في التلفزيون.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo