مقتل إسحاق رابين- الذكرى والعبرةالثلاثاء 1/11/2005 بقلم: أنطوان شلحت- المشهد الاسرائيلي
لولا أن الرقم "مدوّر"، كما يقولون، لكانت الذكرى العاشرة لمقتل إسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، التي تصادف في مطلع تشرين الثاني الجاري 2005، ستمرّ باعتياد مألوف، ليس كشأن ما مرّت به مثلاً الذكرى الثالثة في 1998. لماذا؟. في تلك السنة أعاد المناخ الداخلي الإسرائيلي، الذي توافق مع الذكرى الثالثة إياها، إلى صدارة الحدث الأجواء نفسها التي سبقت الاغتيال ويمكن القول إنها لوّحت به أمام القاصي قبل الداني، بشكل يمكن معه أن نعتبرها "وقائع لاغتيال معلن". لعل الفارق الأهم الآن- لو شئنا اختصار المواصفات- يكمن في أن أريئيل شارون "يحتفل" بالذكرى العاشرة وهو يشنّ حرباً على الشعب الفلسطيني. بينما احتفل سلفه في منصب رئيس حكومة إسرائيل، من جانب حزب "الليكود" تحديدًا، بنيامين نتنياهو، بالذكرى الثالثة بعد أن وقع على "اتفاق واي بلانتيشن". وسواء كان ذلك الاتفاق محققاً للآمال الفلسطينية أو مخيباً لها فإن نتنياهو أضحى، مع توقيعه على الاتفاق، أسير الصورة التي رسمها، أو أسهم في رسمها، عن رابين المقتول. ولا يستطيع الانسحاب من ذلك، حسبما أثبتت مستجدات الأيام الأخيرة كذلك. وأذكر، ضمن أشياء أخرى، أن ذلك الاتفاق وضع نتنياهو آنذاك في "منزلة معيبة" ينظر إليها في ازدراء من طرف الأوساط نفسها التي أشعلت الأرض تحت حادث مقتل رابين. وهي، إلى حدّ ما، "المنزلة" نفسها التي وضع فيها شارون على خلفية خطة "فك الارتباط"، وإن كان ذلك قصة أخرى. النتيجة المطلوب استخلاصها من هذا هي أن تلك الأجواء ليست صنيعة أي من رؤساء حكومات إسرائيل بمفرده. ينطبق هذا، بشكل خاص، على نتنياهو كما ينطبق على سلفه رابين ذاته. وإنما مجرّد التوصل إلى اتفاق مع الشعب العربي الفلسطيني، اتفاق ينعش آمالاً تبدو خائبة في قراءتنا هذه كما قد يقال عن اتفاق "واي"، من شأنه أن يشكل دافعاً لانطلاق موجة الهجوم من عقالها. ربما يحيل هذا الأمر إلى السؤال الملتحق بكل يوم ذكرى للاغتيال المذكور: ما هي العبرة التي يمكن استخلاصها من مقتل رابين؟. رغم مرور عشر سنوات على مقتل رابين، لا يزال هذا السؤال يغري حشداً كبيراً من الكتاب والمفكرين والمعلقين والمحللين الإسرائيليين، يوجهونه إلى الذات ويحاولون إعطاء جوابه للناس كافة. ولدى كل منهم، دوماً، إجابة منمقة تناسب من يوجّه هذا السؤال. لكن الأمر أبعد من ذلك. ويبقى من المجدي تقصّي محاولات الإجابة عن هذا السؤال باستمرار، ليس سعياً وراء "متعة المزيد من التنويع" ـ كما يحتمل أن يقال ـ وإنما لأنه يمكن من خلال ذلك الوصول إلى جانب مهم من الحقيقة المرتبطة بحادث القتل نفسه وبواقع الأمور في إسرائيل، لناحية تكشف "الوضع الاستثنائي الحقيقي"، الذي تحدث عنه مطوّلاً فالتر بنيامين في مقالته "حول فكرة التاريخ". مهما تكن هذه المحاولات فإن واحدة منها قد تعيننا أكثر من سواها. وهي المحاولة التي تعتبر أن مفتاح تأجيج أجواء التهديد بقتل رئيس حكومة أو غيره من المسؤولين الإسرائيليين راجع، أكثر من أي شيء آخر، إلى "إنجاز" اتفاقات مع الفلسطينيين تترتب عليها، إلى جانب أمور أخرى، إعادات انتشار أو انسحابات من الأرض الفلسطينية المحتلة. هذا الأمر وحده يكفي لكي يؤشر إلى أن مقتل رابين هو، بكيفية ما، نتاج "عصاب جماعي إسرائيلي" ضد الفلسطينيين والعرب. ولئن كان العصاب في التعريف القاموسي، وفق ما يقوله المفكر العربي جورج طرابيشي، هو كل خلل أو اضطراب من طبيعة مرضية يصيب الشخصية أو قطاعاً منها نتيجة لتمحورها حول عقدة نفسانية، فإن "العقدة" التي ينتظم حولها "العصاب الجماعي الإسرائيلي" هي عقدة الاعتراف بالشعب الفلسطيني ذاته. وغير خاف على أحد أن هذا "العصاب الجماعي" يأخذ، في أحد جوانبه، شكل جموح أيديولوجي مدجّج بالفكر الصهيوني، الذي لا يزال "حيًّا يرزق". ويأخذ، في جانب آخر، شكل "وباء نفساني". وربما يستدعي الحكم الأخير، أكثر مما يستدعي أي شيء آخر، أن نمدّد الواقع الإسرائيلي على سرير التحليل النفساني. فماذا نجد لدى تمديد المجتمع الإسرائيلي على مثل هذا السرير؟ هذا ما فعله حقاً البروفيسور دانيئيل بار- طال، من جامعة تل أبيب ورئيس "الشركة العالمية لعلم النفس السياسي"، وإن كان ذلك قبل عدة سنوات، فتوصل إلى النتائج التالية، التي تشف عن دلالاتها بكل وضوح: 1- الشعب (اليهود) في إسرائيل هو شعب غير طبيعي، شعب مفرّق، متشرذم، يعاني من انقسام حاد وعميق للغاية. الجميع يعايش الأحداث ذاتها، لكن ردود الفعل النفسانية عليها مغايرة من النقيض إلى النقيض. "المعسكر القومي" جبري: لا حل للنزاع في الشرق الأوسط. إنه يركّب "نظارة سوداء" ويرى عبرها أن المستقبل ينذر بأعظم الشرور. "المعسكر الحمائمي" مضغوط، هستيري، لكونه يشعر بأنه عاجز وليس في مقدوره التأثير على مجريات الأمور. كلا المعسكرين يهرب من الواقع. "المعسكر القومي" يفعل ذلك بواسطة التنكر لعلائم السلام. "والمعسكر الحمائمي" يعيش في وضعية تنصّل من المسؤولية وهروب من الواقع إلى عالم الخيال (اسكيبزم). وهو مقطوع من الأحداث، منعزل عن الواقع، أشبه بمن هاجر دون أن يترك البلاد فعلياً. هذا المعسكر الأخير فقد الدافعية لتغيير الوضع، بينما "المعسكر القومي" لا يرغب البتة في التغيير! 2- عن السبب النفساني للخوف من التغيير، يقول بار- طال إن إسرائيل استثمرت الكثير في النزاع مع العالم العربي، من ناحية عسكرية واقتصادية وأيضاً من ناحية نفسانية. ولقد تم تشييد أيديولوجية تفسر وتبرر هذا السلوك، ومن الصعوبة بمكان تغييرها. "أسهل أن نواصل رؤية السلبيات لدى الخصم، من أن نبذل جهداً لرؤية ألوان رمادية داخل اللون الأسود". و"الإنسان المرعوب معتاد على الخوف، والأمل في نظره هو شيء غائم وغير مأمون العواقب". 3- بنيامين نتنياهو: يتطلب تحليله العودة إلى "أناه" الخاصة التي كتبها في مؤلفه "مكان تحت الشمس"، الذي أصدره قبل عدة سنوات. بحسب مفهوم نتنياهو فإن العرب- لا فرق في ذلك بينهم- لن يسلموا قطّ بوجود دولة يهودية في هذه المنطقة. وتفسيره لذلك يستند إلى كونهم يرون في إسرائيل فرعاً من الثقافة الغربية، وبما أنهم يتخذون موقف الرفض والقرف بإزاء هذه الثقافة، فإنهم سيبذلون كل ما في استطاعتهم لاقتلاع إسرائيل من هنا، ولكونهم عنيفين وعدوانيين فإن العنف سيبقى "سيد الموقف" هنا. إن بني البشر في حاجة، لا شعورية، إلى مجموعة يكرهونها، وفي ذلك ما يعزّز تراصهم. و"قد فهم نتنياهو هذه الحاجة وقدّم لشعبه وفرة من وقائع إسقاط الشرعية والإنسانية عن العرب، لمجرد كونهم كذلك". 4- استذكر بار- طال، في مجرى وضع المجتمع الإسرائيلي على أريكة المحلل النفساني، أبحاثاُ أنجزها في السابق ودلّت على أن الأطفال اليهود، منذ عمر الثانية والنصف، يتكوّن لديهم تصور سلبي عن العرب. وخلص من هذه النتيجة إلى الاعتقاد بأن هؤلاء الأطفال يفتقرون إلى مرحلة السذاجة، ويبقى العربي في تصورهم مفردة ملازمة لصفات سلبية، شريرة. وقبل عشر سنوات، من السنة التي نشر تحليله النفساني فيها، أخضع بار- طال للفحص كتب التدريس العبرية في مواضيع الأدب والتاريخ والجغرافيا والمدنيات فوجد أنها لا تنفك تكرس النزاع الإسرائيلي العربي وتمجده. وفي كتب التدريس العبرية المعتمدة في مدارس التيار الديني المتشدد (الحريدي) جرى تصوير النزاع بألوان أشد قتامًا، وشخصية العربي في قوالب أكثر سلبية وتنميطية. وفي فحص متجدد في 1997 وجد أن كتب التدريس العبرية لا تزال تعاني من التثبت في الماضي، من غير أدنى تغيير يتناسب على الأقل مع سيرورة "عملية السلام". وهو يقول في هذا الشأن: يبدو أن السلام بقي خارج حدود المدرسة، لأن من ينظر إليه يفعل ذلك بوصفه شيئاً ما منتمياً إلى السياسة تختلف الآراء حوله، أو بوصفه انحرافاً طفيفاً عن مسار التاريخ الحافل بالحروب. ولسان الحال هنا يقول: ما جدوى تغيير الكتب إذا كان السلام، وفق المنظور السالف، فصلاً قصيراً لن يصمد طويلاً؟
حينما أذكر ما يقوله بار- طال، في البند الأخير، فلكي ألفت النظر، وإن من باب الإشارة، إلى "ثقافة عريقة" تمثلها هذه النماذج وتصدر عنها، وهي ثقافة الإسرائيلي عن الإنسان الفلسطيني والعرب والتي تشكل أحد أهم مكوّنات "العصاب الجماعي الإسرائيلي" ضد الشعب العربي الفلسطيني وسائر الشعوب العربية. إنها ثقافة متأصلة، ومتجذرة، في الوجدان والعقل الإسرائيليين. كما أنها ثقافة تعاود، الآن، الظهور بكل قوة وتجدّد نفسها في الذاكرة وفي الحضور. هذه الثقافة مهّدت لاغتيال رابين. وهي قد تشكل الوقائع الصارخة للاغتيال المعلن القادم، على الخلفية ذاتها المنسولة من ذلك "العصاب الجماعي".
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|