*إن قاتل رابين الفعلي يقبع في السجن وقد لا يخرج منه حيا، ولكن العقلية الموجهة المعادية للعرب حرّة طليقة وتتنامى*
تحيي اسرائيل، في هذه الايام، الذكرى العاشرة لاغتيال رئيس الحكومة الاسرائيلية الاسبق، يتسحاق رابين، الذي قتله ارهابي يهودي، في ختام مهرجان تأييد للعملية السلمية في تل ابيب، في مساء الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1995، وتحيي عائلته والعلمانيون الذكرى وفق التقويم العالمي، بينما المؤسسة الرسمية تحييه وفق التقويم العبري، الذي يصادف هذه السنة بعد تسعة ايام.
وكما في كل سنة فمع اقتراب الذكرى تبدأ استطلاعات الرأي بالظهور حول مختلف جوانب الجريمة، من ناحية تأييدها والنظرة للمجرم الذي يقبع في السجن الاسرائيلي بعد ان حكم عليه بالمؤبد وغيرها، ومن عام لآخر يظهر ان هناك تناميا للتعاطف مع القاتل، فحين يعلن 20% من الاسرائيليين، في استطلاع ظهر قبل اسبوع، انهم يؤيدون منح عفو رئاسي للقاتل يغئال عمير، فمن المؤكد ان هناك نسبة جدية أخرى توافق هذا الرأي ولكنها إما تخجل أو تخاف من ابداء رأيها، وإن دلّ هذا على شيء، فإنه يدل على أن العقلية التي قتلت رابين قبل عشر سنوات تتنامى وتزداد عدائية.
ومن باب التذكير، فإن الاغتيال جاء بعد ان شرع رابين، كرئيس حكومة، في مسار مفاوضات واتفاقيات اوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يكن رابين حمامة سلام، بل هو احد كبار جنرالات الحرب في اسرائيل، وكان رئيس أركان الحرب في عدوان الرابع من حزيران 1967، وكان وزير الحربية في اسرائيل منذ العام 1984 وحتى العام 1990، وهو الذي أصدر الاوامر الشهيرة الداعية الى تكسير عظام الفلسطينيين في الانتفاضة الفلسطينية الاولى. إلا انه عندما وصل الى رئاسة الحكومة في العام 1992، توصل الى استنتاج بضرورة مصارحة شعبه بحقيقة أن استمرار الاحتلال لا يمكن ان يكون امام شعب يرفض الاحتلال وينتفض ضده.
ومهما كانت انتقادات بمستويات مختلفة لمسار اوسلو، إلا اننا لا نستطيع تجاهل ان هذا المسار أحدث انكسارا في الشارع الاسرائيلي، وساهم بشكل كبير في حالة التقاطب السياسي التي ظهرت في تلك الفترة، وكان مفاجئا ومباغتا طبعا لاصحاب عقلية العداء للعرب، وللاجيال الكثيرة التي ربتها اسرائيل على هذه العقلية، ولم تستطع ان تتأقلم في اجواء الحوار مع الفلسطينيين، وفتح صفحة جديدة. وما عزز هذا، هو انه على الرغم من خطوة حكومة رابين الجريئة، إلا انها واصلت التأتأة وعدم البوح بالحقيقة كاملة، وهذا ما أحدث ثغرات كثيرة وتلكؤا خطيرا في التحرك السياسي الاسرائيلي، ساهم بشكل اساسي بالوضعية التي نعيشها اليوم.
وراح قادة اليمين حينها يحرضون وينمون عقلية العداء للعرب، وقادت هذه الأجواء والعقلية الى اغتيال رابين، وهذه العقلية لم تظهر فجأة، وانما بدأت مع وصول اولى العصابات الصهيونية الى فلسطيني قبل اكثر من مئة عام، وقد مأسست اسرائيل هذه العقلية مع قيامها، ورابين الضحية كان يوما ما من قادتها.
واغتيال رابين على هذه الخلفية لم يكن الجريمة الأولى، بل سبقتها في العام 1967 محاولة اغتيال سكرتير عام الحزب الشيوعي الاسرائيلي، مئير فلنر، حين كان نائبا في البرلمان الاسرائيلي، واصيب بطعنات كادت تودي بحياته، لأنه صرخ من على منصة الكنيست الاسرائيلي في وجوه قادة اسرائيل في حزيران 1967 وقال لهم انتم مجرمي حرب. وفي العام 1982 تم اغتيال ناشط السلام الاسرائيلي اميل غرينتسفايغ خلال مظاهرة لحركة السلام الآن، ضد الحرب على لبنان، واحتجاجا على مجزرة صبرا وشاتيلا.
وخلافا لما جرى في التاريخ القريب والبعيد في اماكن أخرى، فإن اجواء التحريض لم تتوقف، لا بل اوصلت اصحابها الى الحكم، بقيادة بنيامين نتنياهو، بعد ستة أشهر من الجريمة، ولكن لم يكن امامهم سوى مواصلة السير في مسار اوسلو، وعلى الرغم من انهم حاولوا العرقلة، إلا انهم احدثوا تقدما محدودا، مثل اخلاء المدن في الضفة الغربية وغير ذلك، ولكن حين ادركت اسرائيل مجتمعة في نهاية صيف العام 2000 انها وصلت الى نقطة الحقيقة، وليس امامها سوى الانسحاب الكامل او التفجير، فقد اختارت التفجير المتواصل حتى اليوم.
ليس فقط ان شيئا لم يتغير منذ عشر سنوات وحتى اليوم، لا بل ان عقلية العداء والكراهية واتسعت، والقبول باغتيال رابين يظهر في عدة أشكال، وليس فقط من خلال استطلاعات الرأي، فمثلا، أقر الكنيست الاسرائيلي في الأشهر القليلة الماضية قانونا يقضي بتخليد ذكرى الارهابي رحبعام زئيفي، اكبر داعية لطرد الفلسطينيين من وطنهم (ترانسفير)، الذي تمت تصفيته من قبل خلية فلسطينية تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في تشرين الأول (اكتوبر) 2001، ردا على اغتيال نائب الأمين العام للجبهة، الشهيد ابو علي مصطفى في آب (اغسطس) 2001. والموجه الاساسي لمبادرة لهذا القانون، من قبل نائب ارهابي لا اقل من زئيفي، آرييه إلداد، هو قانون تخليد ذكرى رابين، بمعنى المساواة بين الحالتين، وينص قانون زئيفي على تخصيص حصص دراسية في مدارس اسرائيل كل عام لتعليم ونشر افكار زئيفي، التي كلها افكار عداء اجرامي ضد العرب. لا بل ان قادة اسرائيل الحاليين وقفوا على منصة الكنيست في الاسبوع الماضي، في جلسة خاصة عقدت لمرور اربع سنوات على تصفية زئيفي، وعبروا عن اشتياقهم وحنينهم للارهابي زئيفي.
في أوج اقرار اسرائيل خطة اخلاء مستوطنات قطاع غزة، وخلال تطبيق الخطة نشر عن تهديدات كثيرة على حياة رئيس الحكومة الاسرائيلية اريئيل شارون، ومن المخاطرة الاستهتار بمثل هذه التهديدات، فقد تكون للاستهلاك الاعلامي وقد تكون حقيقية، ولكن ما يجب معرفته هو ان شارون هذا من كبار دعاة التحريض، ويعتبر الزعيم الروحي لكل حركة الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان السورية المحتلة، وهو ايضا لم يغير جلده، بل أقدم على هذه الخطة من اجل استكمال السيطرة على الضفة الغربية والجولان، وعلى الرغم من تأكد اليمين الاسرائيلي ان شارون لم يتخل عنه، إلا ان اجواء التحريض على قتله تنامت.
اليوم، كما في السنوات الماضية، يتحدث أنصار من حزبه وحركات اليسار الصهيوني عن أجواء التحريض السياسي، ولكن هذا التحريض ما كان بالامكان ان يتنامى لولا الارضية الاساسية في المجتمع الاسرائيلي التي هي على استعداد لقبول افكار كهذه، فمن يراجع مناهج التعليم في مدارس اسرائيل سيجد اساس هذه الكراهية والتحريض، التي يتغذى عليها الاطفال لحظة تفتح عيونهم وحتى انهاء دراستهم المدرسية وتوجههم فورا لخدمة آلة الحرب الاسرائيلية من خلال التجنيد الاجباري.
إن قاتل رابين الفعلي يقبع في السجن وقد لا يخرج منه حيا، ولكن العقلية الموجهة حرّة طليقة وتتنامى.