* شارون لا يكتفي بالأزمات السياسية التي يفتعلها، فهو بحاجة ماسة للأزمات على الصعيد العسكري* شارون يرى ان الأزمات التي يواجهها تبعد عنه الضغوط الدولية، ولهذا فإنه يفتعلها*
افتتح الكنيست الاسرائيلي، البرلمان، في اليوم الأخير من الشهر الماضي، تشرين الأول/ اكتوبر، دورته الشتوية الاخيرة، مفتتحا بذلك ايضا، عام الانتخابات البرلمانية، التي من المفترض ان تجري في خريف العام القادم، حسب الموعد الرسمي، إلا ان احتمال تقديم موعدها الى الربيع القادم لا يزال يلوح في الأفق، على ضوء القلاقل التي تشهدها حكومة اريئيل شارون، بائتلافها الهش.
وخلافا لما يحاول الاعلام الاسرائيلي تصويره، فإن هذه دورة برلمانية سيطغى عليها، بالأساس، الملل السياسي، فليس على أجندة الحكومة سوى اقرار ميزانية اسرائيل للعام القادم 2006، وستثور حولها بعض الزوبعات الحزبية، ولربما أكثر بقليل، ولكن وحتى انتهاء هذه الدورة، في نهاية شهر آذار/ مارس القادم، لن تبادر الحكومة الى أي اجراء سياسي قد يؤثر على ائتلافها ومستقبلها.
بينما يزعم الاعلام الاسرائيلي، ومعه بعض الساسة، أن هذه دوره عاصفة، ولكن العواصف الشتوية ستبقى بالاجواء الطبيعية، وما العواصف السياسية المقبلة سوى بعض المماحكات الحزبية، التي من المنتظر ان تزداد كلما اقترب موعد الانتخابات البرلمانية.
ويشهد الائتلاف الحكومي حاليا فترة هدوء واستقرار، رغم هشاشته، مقارنة مع الاشهر الصاخبة التي مرّ بها مؤخرا، وعلى الرغم من هذا، إلا ان رئيس الحكومة شارون قرر افتتاح الدورة البرلمانية بأزمة مفتعلة، اشغل فيها الرأي العام الاسرائيلي، ومعه وسائل الاعلام العالمية، ليظهر شارون، من جديد، وكأنه "ضحية برنامجه السياسي"، ولا يزال "يدفع ثمن" اخلاء مستوطنات قطاع غزة.
فقد قرر شارون قبل يوم من افتتاح الدورة البرلمانية تعيين اثنين من انصاره في كتلة الليكود البرلمانية وزيرين في حكومته، مع علمه المسبق ان هذه الخطوة تلاقي معارضة حتى في كتلته البرلمانية، فثمانية نواب من أصل 40 نائبا من الليكود يرفضون الخطوة، على اعتبار ان شارون يعمل بشكل فئوي، وهم يعارضونه أصلا بسبب خطة اخلاء مستوطنات قطاع غزة، ومن بين الثمانية وزير المالية السابق بنيامين نتنياهو، كما ان كتلة حزب "العمل" الشريك الاكبر في الحكومة، بزعامة شمعون بيرس، وجدت نفسها محرجة امام تلك التعيينات، واعلنت رفضها للخطوة، إلا انها أبدت ملامح التراجع عن موقفها المعارض.
وهذه المعارضة افقدت شارون الاغلبية المطلوبة في الكنيست لاقرار هذين الوزيرين، وعلى الرغم من هذا فإن شارون أصر قبل يوم من افتتاح الدورة الشتوية على عرض الطلب على الكنيست، وهدد بأنه في حال رفض طلبه فإنه سيحل الحكومة وسيتوجه مباشرة الى انتخابات مبكرة، مع علمه ايضا، أن أيا من الاحزاب ليس جاهزا لمثل هذه الانتخابات، كما انه سيجد صعوبة في اقناع الشارع الاسرائيلي بأنه يحل حكومة ويقلب البلاد من اجل ارضاء اثنين من انصاره.
وفي اليوم التالي، حين رأى شارون ان تهديده لم يجد آذان صاغية، لعدم جديته، ومعرفة كل الاطراف السياسية ان شارون نفسه لا يرغب بمثل هذه الانتخابات، فقد اعلن تراجعه عن التهديد، ولكن ما أراده شارون بالاساس حصل عليه، فقد نشر اجواء أزمة حكومية ليس فقط في الرأي العام الاسرائيلي بل ايضا في وسائل الاعلام العالمية، التي هرعت الى الكنيست في يوم افتتاح الدورة لتغطي الزوبعة التي اثارها شارون، وسرعان ما عمل على تهدئتها.
الأزمات تبعد الضغوط
في الاشهر الاثنى عشرة الماضية رافق الاعلام العالمي، ومن ثم الرأي العام العالمي، "الأزمة" السياسية الداخلية في اسرائيل، على خلفية اخلاء مستوطنات قطاع غزة، ولم يخفِ شارون نواياه، عندما وضع خطته، فقد اعلن نيته ابعاد أي ضغوط دولية على اسرائيل لتدفع بالعملية السياسية مع الفلسطينيين الى الأمام.
وانتبه شارون الى ان انشغال الرأي العالم العالمي بأزماته الحكومية الداخلية اعطى الثمار التي يرجوها شارون، فمثلا، قبل نحو شهرين ذكرت مصادر اسرائيلية ان الادارة الامريكية طلبت من حلفائها في اوروبا والعالم عدم الضغط على حكومة شارون، نظرا لما أقدمت عليه في غزة، وما يدفعه شارون من "ثمن سياسي" (مزعوم) ومواجهة حكومته "خطر السقوط".
ومن خلال مراقبة لمجريات الأزمات السياسية في اسرائيل، المفتعلة بغالبيتها، في الاشهر الأخيرة نجد ان شارون نفسه كان يقف وراء هذه الأزمات، ولم يسمح بأي هدوء في حكومته، فمثلا، بادر شاون في شهر كانون الاول/ ديسمبر، من العام الماضي الى حل ائتلافه الحكومة وابعاد كتلة شينوي وتغيير تركيبة حكومته، مع انه كان بمقدوره الحفاظ على الائتلاف القائم، ومواصلة الحصول على دعم حزب "العمل" من الخارج.
وفي شهر حزيران/ يونيو الماضي، بعد ان اقر الكنيست الاسرائيلي قانون ما يسمى بـ "التعويضات للمستوطنين"، وكسبه للمعركة امام المتمردين عليه في كتلته البرلمانية، بادر بنفسه الى أزمة حكومية بعد ساعات قليلة من ظهور النتيجة التي طلبها، وهي شبيهة بالأزمة التي افتتح بها الدورة الشتوية، وهذان مثالان ولكن الأمثلة كثيرة، حتى حوّل شارون حكومته الى حكومة مأزومة.
ولكن شارون لا يكتفي طبعا بالأزمات السياسية التي يفتعلها، فهو بحاجة ماسة للأزمات على الصعيد العسكري، فقد اثبت شارون على مدى السنوات الخمس، تقريبا، التي يتولى بها رئاسة الحكومة الاسرائيلية، ان عدوه الأكبر هو الهدوء الأمني، ففي ظل الاستقرار الأمني سيكون مطالبا بالتقدم بالعملية السياسية، وليس لدى شارون ما يقدمه في تقدم كهذا.
ولهذا فقد رأينا شارون يبادر الى تصعيد عسكري، وهو بنفسه بادر الى خرق فترات الهدوء الأمني، وللأسف فهناك من عندنا من لا يصمد أمام "اغراءات شارون" وسرعان ما ينجر لاستفزازاته، ففي الاسبوع الاخير من الشهر الماضي، تشرين الأول/ اكتوبر، اغتالت قوات الاحتلال الاسرائيلي وائل السعدي قائد سرايا القدس في منطقة طولكرم، ولحق هذا عملية تفجيرية انتقاما لهذا الاغتيال الاجرامي، وتبع ذلك هجوما رهيبا لقوات الاحتلال على الضفة الغربية وقطاع غزة، تخللته عمليات اغتيال أخرى.
وهذه الحادثة شبيهة جدا بجريمة اغتيال رائد الكرمي قائد كتائب شهداء الأقصى في منطقة طولكرم، في مطلع العام 2002، ففي حينه نفذت قوات الاحتلال جريمتها، بعد فترة هدوء كامل دامت حوالي الشهر، ولربما اكثر، وفجر هذا الاغتيال من جديد الوضع الأمني كليا، ولاقت الجريمة الاحتلالية حملة معارضة شديدة في وسائل الاعلام الاسرائيلية، وتوقف عندها الكثير من المحللين العسكريين البارزين في اسرائيل، من امثال زئيف شيف وعاموس هارئيل وامير اورن وغيرهم، وكشفت مقالاتهم آليات اتخاذ القرار في سدة الحكم في اسرائيل، واستفدنا الكثير مما كتبوا، وتأكدنا ان شارون حين اطلق الاوامر كان ذلك بسبب خوفه من اجواء التهدئة.
وها نحن في هذه الأيام نعيش حملة تصعيد عسكري أخرى مشابهة.
رسالة شارون
إن ما يريد شارون قوله للعالم، انه قام بخطوة "لم يجرؤ" عليها أي قائد اسرائيلي من قبله، بانسحابه من قطاع غزة، وللأسف الشديد، او حتى من دون أسف، فإن حكاية "لم يجرؤ من قبله"، رددها زعماء عرب مجّدوا ما قام به شارون، على الرغم من معرفتهم الأهداف الخطيرة من وراء اخلاء قطاع غزة.
ويضيف شارون قائلا، بما انني ما قمت به لم يكن سهلا، فعليكم ان تتفهموا الوضعية الداخلية في اسرائيل، وعليكم المحافظة على حكومتي وعلى وجودي في السلطة، وإلا.... "فأنا اواجه أزمة سياسية داخلية ولا زلت أدفع ثمن "الانسحاب" من قطاع غزة، كما انني اواجه تصعيدا عسكريا، واسرائيل تواجه حربا"، أو بلغة الاحتلال الاسرائيلي فإن "اسرائيل تواجه ارهابا".
وتستغل الحكومة الاسرائيلية الحساسية العالمية من العمليات التفجيرية، التي باتت تقع في جميع انحاء العالم لتخلط الحابل بالنابل، وتلخّص نضال الشعب الفلسطيني بأنه "حلقة ارهاب"، وليس قضية احتلال وقمع شعب بأسره.
ولهذا، يقول شارون، "لا يمكن الضغط عليّ أكثر، وهذا الى أجل غير مسمى". والى حين انتهاء هذه الأزمات، التي لن يسمح لها شارون بانتهائها، فإنه يسارع لفرض حقائق على الأرض الفلسطينية، من خلال توسيع مشاريع الاستيطان في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وتنفيذ مشروع تهويد منطقتي الجليل والنقب (مناطق 1948)، وغيرها.
ولكن يجب الانتباه الى انه إذا نجح شارون في فرض اجندته في هذه الفترة، فإنه لن ينجح بها طويلا، فما سبق ليس دعوة لليأس، لا بل العكس، وانما مساهمة في شرح حقيقة ما يجري داخل الساحة الاسرائيلية، وبالامكان مواجهة هذه المؤامرة الاسرائيلية بوحدة فلسطينية يقرر شكلها الشعب الفلسطيني، وليس هذا الفصيل.
إن ظهور هيبة السلطة الفلسطينية في الشارع الفلسطيني من جهة، وهيبة السلاح الفلسطيني الموحد من جهة أخرى، يبث رسالة مقابلة اقوى للعالم، فنضال الشعب الفلسطيني لم يبدأ قبل خمس سنوات، وتجربته وابداعاته النضالية الماضية نجحت في تجنيد الرأي العام العالمي الى جانبه، وحتى لاقت تجاوبا في داخل الشارع الاسرائيلي، ولربما ابرز مثال على هذا كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في النصف الثاني من الثمانينيات.
فمن يعتقد ان الحل السحري بيده لوحده فقط فإنه يخطئ بحق شعبه بالاساس، فهذا الحل موجود لدى المجموع العام، ووحدة الشعب هي الرد.