التقييم النقدي للانتفاضةالثلاثاء 8/11/2005 نعيم الأشهب- الطريق
تميزت المواد التي نشرت في الذكرى الخامسة لانطلاقة الانتفاضة بطابع التقييم النقدي لهذه الجولة من الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي، والتي يمكن القول، دون خشية من الزلل بأنها كانت الأقسى والأكثر كلفة من جميع معارك شعبنا ضد الاحتلال منذ 1967. وغني عن القول أن اهمية هذا التقييم النقدي تكمن في استخلاص العبر والدروس، لتؤخذ في الحسبان في المعارك القادمة، بما في ذلك انتفاضات أخرى، يبدو ان لا مندوحة عنها، طالما الطرف الاسرائيلي سادر في اصراره على فرض مشروعه للتسوية والمناقض للمشروع الوطني الفلسطيني المدعوم بالشرعية الدولية، وطالما يعود هذا الطرف للتسويف والمماطلة، وعلى نحوٍ أسوأ من تسويف مرحلة ما بعد توقيع اتفاقات اوسلو، يداً بيد مع التصعيد في خلق المزيد من الوقائع الكولونيالية على الأرض. لكن هذا التقييم النقدي للانتفاضة على اهميته وضرورته، ما كان ليستوعب كل دروس وعبر هذه الانتفاضة البالغة التعقيد والمتعددة الجوانب. ومن هنا يمكن الافتراض بأنه يمكن اضافة المزيد من استخلاصات هذا التقييم. مثلاً، قضية العنف، ليس من جانب واحد وانما من جوانبها المختلفة. كذلك النزعة الفئوية ومدى الضرر الذي الحقته بالوحدة والقضية الوطنيتين.
العنف كأحد اشكال الصراع
هل يمكن في ضوء نتائج الانتفاضة الأخيرة نفيه وبجميع اشكاله، وبالمطلق، في معارك وانتفاضات لاحقة، طالما الاحتلال قائم ومستمر، ومن يمتلك حق هذا النفي والقدرة على فرضه؟ واذا عدنا الى بداية الانتفاضة وتساءلنا: هل كان انزلاقها الى العنف نتيجة شهوة فصائل معينة لهذا الشكل من المقاومة وحسب، ام نتيجة ازمة تكتيك فاعل في ظروف ما بعد اوسلو؟ طبعاً، لا يمكن انكار وجود من يهوى هذا الشكل من المقاومة، وجذور هذا الهوى عميقة لدى البعض منا، لكن هذا وحده لا يفسر تحول الانتفاضة نحو هذا الشكل، بينما لم يكن الأمر كذلك في الانتفاضة السابقة، بمعنى آخر: لا بد، في هذا السياق من الأخذ في الحسبان المتغيرات النوعية على الأرض نتيجة تطبيقات اتفاقات اوسلو. فالميزة الأساسية لانتفاضة الحجر، ذات المشاركة الجماهيرية العريضة انها اربكت المحتل الاسرائيلي وحرمته من تفعيل اذرعه العسكرية الأساسية لحسم المعركة لصالحه، وذلك لاعتبارين أساسيين، الأول: وجود جنود الاحتلال وسط الجمهور الفلسطيني، في المدن والقرى والمخيمات. والثاني: ان الحجر لا يشكل غطاءً ومبرراً، امام العالم، لتفعيل الطائرة والدبابة ضده. وفي هذا السياق لم يكن صدفة ان كان الاستخلاص الاسرائيلي الرئيسي من انتفاضة الحجر هو سحب الجيش الاسرائيلي، في اطار اتفاقات اوسلو، من داخل المدن والمخيمات ومواقع الكثافة السكانية، ومرابطته على تخومها. ومعلوم ان الانتفاضة الاخيرة اندلعت كرد الفعل على استفزاز مخطط وقتل عشوائي كثيف. ولكن حين لجأ الشباب الفلسطيني، في البداية، الى الحجر، على غرار الانتفاضة السابقة، بدا جلياً ان الواقع على الارض تغير جذرياً عما كان عليه في الانتفاضة السابقة. وبدا ان التوجه بالحجر نحو مواقع قوات الاحتلال المحصنة على تخوم التجمعات السكانية او نحو آلياتهم العسكرية المدرعة إنما يمثل نوعاً من الانتحار العبثي بلا أي مردود. وهذا ما تأكد بشكل قاطع في الأيام الأولى للانتفاضة وكثافة ضحاياها. بمعنى آخر: لم يعد الحجر ولا اشكال النضال الجماهيري الأخرى، كالتظاهر والاضراب وغيرها تشكل عناصر ضغط على الاحتلال الاسرائيلي، بعد فك "ارتباطه" بهذه الجماهير وفقاً لاتفاقات اوسلو. ومعلوم كذلك ان حكام اسرائيل تحولوا بعد ان فشلوا في ارغام الطرف الفلسطيني على التسليم بشروطهم الجائرة للتسوية، في محادثات كامب ديفيد صيف 2000، رغم ممارسة كل الوان التهديد والضغط عليه، بدعم كامل من الطرف الأميركي .. تحولوا الى خيار العنف كلغة وحيدة للتعامل مع الطرف الفلسطيني، لتحقيق ما فشلت السياسة والدبلوماسية في تحقيقه، او ارغام اوساط واسعة من الفلسطينيين على الرحيل هرباً من ارهاب الاحتلال الدموي المنفلت بلا حدود، وتكرار نكبة 1948. وفي مواجهة العنف الاسرائيلي المفرط ضد الجماهير العزلاء من جهة، واكتشاف فشل دور الحجر الذي كان فاعلاً في الانتفاضة السابقة من جهة ثانية، وغياب تكتيك فاعل بديل من جهة ثالثة، تشكلت اجواء الانزلاق نحو اللجوء للعنف كرد على عنف المحتلين المفرط. لكن المحصلة الفعلية لهذا الانزلاق جاءت كاستجابة لمخطط الطرف الاسرائيلي باستدراج ضحيته نحو حلبته المفضلة حيث يمتلك التفوق الكاسح، ولتبرير تخليه عن أي لغة سياسية للحوار عدا لغة العنف المتصاعد، وللزعم في الوقت ذاته بعدم وجود شريك فلسطيني لصنع السلام. ولكن برغم هذا الانزلاق نحو العنف، فقد كان يمكن لبعض ممارساته ان تعطى ثماراً ايجابية لو كان هذا العنف انتقائياً من جهة، ومن الجهة الثانية لو لم يفقد البوصلة بالانفصال عن الحسابات السياسية الوطنية العامة، ويغدو بدل ذلك اسير حسابات فئوية ضيقة، ومن جهة ثالثة: لو لم ينفصل احيانا عن التوافق مع المعايير الانسانية التي تفترضها عدالة قضيتنا والترفع عن محاكاة اخلاق الاحتلال وممارساته. فعمليات كالتي وقعت في عين عريك وعيون الحرامية، وقرب الحرم الابراهيمي في الخليل يوم 15/11/2002 وكذلك اقتحام بعض استحكامات الجيش الاسرائيلي والمستوطنات، وتفجير عدد من دبابات العدو، هي مظاهر من العنف ضد الاحتلال يتفهمها المجتمع الدولي، وحتى اوساط واسعة داخل اسرائيل، وهي تدعم في الوقت ذاته النشاط السياسي والدبلوماسي الفلسطيني. كان النضال في جنوب افريقيا ضد نظام الفصل العنصري عبارة عن مزيج من العمليات المسلحة والفعاليات الجماهيرية، ضمن الظروف المتاحة في جنوب افريقيا. ان الظروف التي تشكلت في الساحة الفلسطينية ما بعد اوسلو تطلبت اجراء تغييرات على تكتيكات النضال السياسي الفلسطيني . فمن الجانب الواحد ضاعفت من مهام العمل في الحقلين السياسي والدبلوماسي لتجنيد الرأي العام العالمي وحشد المزيد من الدعم للقضية الوطنية الفلسطينية العادلة. ومن الجانب الآخر، تطلبت المزيد من التركيز على النشاط المشترك مع الاوساط المعادية للاحتلال داخل المجتمع الاسرائيلي والمتطوعين الدوليين ضد الجدار العنصري ومصادرة الأرض وتوسيع الاستيطان، باعتبارها اهدافاً ملموسة ومرئية. لكن العمليات الانتحارية ضد المدنيين داخل اسرائيل عرقلت التقدم في هذا المسار.
النزعة الفئوية
ان طغيان النزعة الفئوية الضيقة على حساب الوحدة الوطنية في الساحة الفلسطينية ادى بالضرورة والحتم الى مجموعة من السلبيات الخطيرة التي خدمت، موضوعياً، مهمة الاحتلال في مساعيه لإرهاق شعبنا واستنزاف طاقاته للمقاومة. وليس تجنياً، في هذا الصدد، التذكير بأن انظمة عربية معينة اسهمت اسهاماً خطيراً ولا تزال في تعميق هذه النزعة الفئوية في الساحة الفلسطينية، من خلال مساعيها لفرض تصوراتها المتباينة لمعالجة القضية الفلسطينية، من خلال الدعم الانتقائي والمنفرد لهذا التنظيم الفلسطيني او ذاك. واذا كانت المشاركة الفاعلة للجماهير العريضة قد اسهمت في توحيد قيادة الانتفاضة الاولى، فإن بداية الخروج على هذه الوحدة، ومنذ الشهور الاولى لتلك الانتفاضة، جاءت على يد حماس، التي تفردت بالنشاط بعيداً عن أي تنسيق مع قيادة تلك الانتفاضة، بل واحياناً في تعارض كامل مع خطوات تلك القيادة. لكن هذه النزعة الفئوية الضيقة طغت ومنذ بداية الانتفاضة الاخيرة، واتخذت ابعاداً خطيرة، عادت بالضرر الفادح ليس فقط على مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، بل وعلى كل فصيل من فصائلها، حيث هيأت افضل الظروف للاحتلال واجهزة مخابراته لتحقيق انجازات سهلة نسبياً ما كانت لتبلغها لولا الامعان في ممارسة هذه النزعة الفئوية المغلوطة. ففي سبيل ان يسجل كل فصيل ما يقوم به في رصيده الخاص وليس رصيد الحركة الوطنية ككل، كان يجري الاعلان الفوري عن الفاعل وتحديد هويته، واحياناً مع الصوت والصورة، خلافاً لأبسط معايير وقواعد المقاومة السرية للاحتلال. ومعلوم ان هذا كان يعفي قوات الاحتلال من أي جهد لتحديد مصدر الفعل وعنوانه. لكن خطر هذه النزعة، التي تعتبر وبحق اخطر امراض الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، لم يتوقف عند هذا الحد، بل قاد كذلك الى نوع من المحاكاة، دون اعتبار لمردودها، سلبياً ام ايجابياً. فمن المعروف ان حماس كانت اول من بادر الى التفجيرات الانتحارية. لكن خشية فتح من تحول الشارع - الذي تسيطر عليه عواطف الانتقام من جرائم الاحتلال المتفاقمة - نحو حماس وعلى حساب شعبيتها، دفع بها، ولو بعد عام تقريباً الى محاكاة عمليات حماس هذه. من جانب آخر، فإن بعض العمليات المحكومة بهذه النزعة الفئوية الضيقة، وتحجب عنها شجرة التنظيم المعني رؤية الغابة الوطنية بمجملها واحتياجاتها في اللحظة المعنية، كانت تقدم اشكالاً اخرى من المساعدات المباشرة والفورية، واحياناً حسب الطلب - دون قصد - للعدو. ففي اكثر من مناسبة، كان العدو يعاني من ازمات داخلية تهدد بتفسخ صفوفه، لكن بعض التنظيمات الفلسطينية، كانت تقوم بما يقدم افضل عون خارجي لإخراجه من ازمته، بل ولتحويل حساب حل ازمته على شعبنا. ولعل آخر مثال على ذلك ما حدث عقب الانفجار الدامي في القطاع خلال الاستعراض العسكري لحماس، عقب الانسحاب الاسرائيلي من هذا القطاع، وما قامت به حماس للتستر على السبب الحقيقي لهذا الانفجار، من اطلاق الصواريخ البدائية على اسرائيل، التي لم تسبب المئات منها التي اطلقت حتى الآن أي ضرر جدي لدى الطرف الاسرائيلي. لكن اطلاقها العبثي قدم لشارون، الذي كان يواجه خطراً حقيقياً بانقسام حزبه، وما يتبع ذلك من تداعيات على موقعه وعلى سلطة الليكود، كان حبل النجاة من تلك الأزمة، وقدم له الفرصة لإسترضاء اليمين الاسرائيلي المتطرف على حساب شعبنا، بالغارات الجوية وقذائف المدفعية الثقيلة على القطاع، مسجلاً سابقة خطيرة، ولما تمض على الانسحاب من القطاع ايام معدودة. وعلى كل حال، فالهدوء النسبي السائد اليوم يمثل فرصة جديدة للمساعي السياسية والدبلوماسية لتحقيق أي قدر من التقدم نحو الحل العادل القائم على قرارات الشرعية الدولية. لكن هذا الهدوء يمثل، في الوقت ذاته، فرصة لإستجماع القوى استعداداً لمعارك لاحقة مع الاحتلال اذا تطلب الأمر. والأمل، ان تكون الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف فصائلها قد استفادت من خبرات الماضي، بحيث تتجنب اخطاءه الأساسية. فالحل النهائي لهذا النزاع المزمن، يتطلب ، كما يبدو، متغيرات ايجابية لصالح هذا الحل في المحيطين الإقليمي والدولي، وغني عن القول ان المقاومة الفاعلة للشعب الفلسطيني للاحتلال، هي اسهام حيوي في انضاج هذه المتغيرات.
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|