العظام والمفاصل والعضلات والأوتار والأعصاب لم تهشم وتحطم عشوائيا وارتجالا، ولم يقطع ذاك الجسد دون تمييز، بل استُهدف ودُمر بدقة بالغة لاستئصاله على يد خبيرة تعرف تماما كيف تختار النقاط الأكثر إيلاما، والمواضع التي تسبب مزيدا من الشلل والمعاناة"؛ هكذا يلخص أحد أشد مناوئي (وليس أحد مؤيدي) نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وصاحب الكتاب الشهير "جمهورية الخوف"، سمير الخليل، نتائج حرب العام 1991 "حرب تحرير الكويت" على صعيد العراق ("الحرب التي لم تكتمل: الديمقراطية في العراق ومسؤولية "التحالف"، دار الساقي 1991)! أما إبان غزو العراق في العام 2003، فقد بدا المشهد مختلفا تماما، وظهر جليا أن إحدى السمات الرئيسة للاستراتيجية الأميركية في الحرب الأخيرة تتمثل في السعي إلى استغلال العمليات العسكرية ذاتها لتحقيق أهداف سياسية، وذلك بانتقاء الأهداف العراقية بدقة، من خلال التركيز أساسا على الاهداف العراقية العسكرية وتجنب الأهداف المدنية، بما فيها البنية التحتية، إلى أقصى درجة ممكنة! ومن ثم، فيمكن اعتبار العمليات العسكرية الأميركية أثناء غزو العراق ذات بعد إنساني وأخلاقي رفيعين مقارنة بحرب العام 1991 التي افتخر قائد قوات التحالف آنذاك، الأميركي نورمان شوارسكوف، بأنها أعادت العراق إلى العصور الحجرية، وأيده في ذلك تقرير الأمم المتحدة الخاص بتقدير حجم الأضرار الناجمة عن تلك الحرب، والذي جاء فيه ما نصه أن الحرب أعادت "العراق لسنوات قادمة إلى عهد ما قبل التصنيع".
أما السبب وراء هذا التباين الملفت فلم يكن سوى الشعار أو الذريعة التي لجأت إليها الولايات المتحدة لتبرير غزوها، وهو "تحرير شعب العراق" من نظام صدام البعثي الديكتاتوري، وبعبارة أخرى، فإن عدو الولايات المتحدة في حرب العام 2003 كان نظام صدام حسن وحده، وليس الشعب العراقي.
عند النقطة الأخيرة قد تبدو نقطة الالتقاء الحقيقية بين ما حصل للعراق والاحتمالية العالية لحصول الشيء نفسه مع سورية؛ أي أن الولايات المتحدة تسعى من خلال خطابها، ومجمل ما تتضمنه حملتها ضد سورية إلى التأكيد، وإن بطريقة غير مباشرة، على أنها إنما تستهدف النظام السوري وحده وليس الشعب، لا سيما أن النظام هو المسؤول وحده، ومنذ عقود، عن السياسات السورية الداخلية والخارجية. لكن إلى اي مدى يبدو مثل هذا المنطق الاميركي صادقا، أو حتى مقبولا باي درجة، لاسيما من قبل الشعب السوري "غير المستهدف"؟
عدا عن أن حرب الولايات المتحدة لـ"تحرير شعب العراق" قد كلفت هذا الشعب، وبحسب مجلة "لانست" البريطانية، 98 ألف ضحية خلال الفترة من آذار 2003 وحتى أيلول 2004، وبعبارة أخرى، فقد كان هذا الشعب هو الوقود الحقيقي للحرب كما لسنوات الحصار التي سبقتها، عدا عن ذلك، تدرك الولايات المتحدة الأميركية تماما أن معطيات البيئة السورية تختلف بشكل جذري عن شقيقتها العراقية عشية الغزو الأميركي، أو بكلمات المعارض السوري ميشيل كيلو، التي يمكن الجزم أنها تعبر عن الغالبية العظمى للشعب السوري، إن لم يكن جميعه: "نحن (الشعب السوري) مع النظام ضد العدوان (الأميركي)". هذه الحقيقة، والتي تعكس الثقافة القومية العروبية في المجتمع السوري كله، تعيها الولايات المتحدة الاميركية تماما، واستنادا إليها يمكن تفسير الغياب شبه التام للحديث عن تعزيز الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في الخطاب الأميركي الموجه إلى سورية، واقتصار مطالب هذا الخطاب على ما يتعلق بجبهتي العراق وفلسطين.
عند هذا الحد، يبدو ممكنا القول إن ما تخشاه الإدارة الأميركية فعلا، والذي يمثل في الحقيقة ورقة النظام السوري الفاعلة في مواجهة حملة أميركية لحصار سورية أو العدوان عليها، إنما هو إعادة اللحمة إلى العلاقة بين النظام والشعب ليغدو أي تفكير بشأن عدوان قادم هو عدوان على البلد ككل، أي على الشعب كما على النظام. ومن ناحية أخرى، فإن استعادة النظام السوري لشعبه، واستعادة الشعب لنظامه، ستعني تلقائيا استعادة سورية أوراقا إقليمية عربية وإسلامية، ناهيك عن أوراق دولية تغدو اليوم عبئا حقيقيا على النظام، الذي تم إيصاله إلى مرحلة الاقتناع بضرورة التخلي عن هذا العبء إن هو أراد الخلاص، رغم أن الحقيقة أنه إن فعل ذلك فسيكون كمن يسقط آخر أوراق التوت التي تستر عورته.
وفي المقابل، فإن نظاما سوريا معبرا عن الشعب على اسس ديمقراطية لابد وأن يكون نظاما قوميا عربيا بالمعنى الحقيقي والإيجابي للكلمة، كما ولابد لهذا النظام من أن يعبر عن مركزية سورية على صعيد العالم الإسلامي ككل، بحكم ثـقافة الشعب ذاته، وعند هذا الحد فإن أوراق المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، كما ورقة الحرص على عراق حر، مزدهر ومستقل، ستعود لتكون أوراقا سورية، شعبية ورسمية على السواء، وعند هذا الحد أيضا ستكون سورية قادرة مرة أخرى على تعبئة القوى والجماهير العربية، وأن تجعل من معركتها مع الولايات المتحدة تحديدا معركة عربية قومية فعلا. لكن يبقى السؤال: كيف يستعيد الشعب نظامه، وكيف يستعيد النظام شعبه؟
تشكيل لجنة للكشف عما إذا كان هناك سوريون متورطون في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتوقع المأمول هو أن تعمل بكل نزاهة وشفافية، وكذلك إطلاق سراح عشرات المعتقلين السياسيين من السجون السورية، بانتظار إغلاق هذا الملف نهائيا وإلى الابد؛ هذان مؤشران إيجابيان، لكن من وجهة نظرنا، تبدو الرسالة السورية الأوضح إلى العالم أجمع -والتي نعتقد بقدرة الرئيس السوري بشار الاسد على المبادرة إليها- متمثلة في الدعوة سريعا إلى انتخابات نيابية حقيقية ونزيهة وشفافة، تعيد الشعب بأطيافه كافة إلى موقع المشاركة في صنع القرار، وتجعل من سورية جسدا واحدا لا انفصال فيه بين الشعب والنظام في مواجهة مخططات أميركية لا نعرف أين ستنتهي بنا، ولا حدود التنازلات المطلوبة منا بموجبها.
سورية اليوم تبدو مؤهلة للديمقراطية أكثر من اي وقت مضى؛ فالجميع بلا استثناء مستهدف من عدو واضح جلي ما عاد يرضى باي شيء ولو كان كل شيء، والمطالبون بالديمقراطية ينتمون إلى كل دين وطائفة ومذهب وتيار سياسي، والأهم أن الجميع عاش أو رأى بأم عينه النتيجة الصفرية، إلا من الدماء، لحرب الكل ضد الكل.
manar.rashwani@alghad.jo