كنا مجموعة من أعضاء الكنيست العرب واليهود ذات يوم في ضيافته في أوائل العام 2000 في مقر الرئاسة في مدينة غزة، ورأيت كيف يمازح من حوله ويسأل عن أحوالهم التفصيلية ويتابع التقارير التفصيلية ويراجع الرسائل التفصيلية الموجهة إليه، فانتهزت فرصة لأقول له بيننا: أنت لا تتصرف كرئيس للشعب الفلسطيني إنما كأب للشعب الفلسطيني.
راقته الفكرة مؤكدا: نعم اشعر أن جميع أبناء الشعب الفلسطيني أبنائي وبناتي وإخوتي.
لست واثقا من أن المطلوب من زعيم الشعب أن يتصرف كأب لشعبه مع كل ما في الأمر من معان جميلة ومسؤولية جسيمة ومحبة خالصة.
لكن هكذا كان ياسر عرفات، الزعيم والمناضل الشجاع والأب والأخ والصديق.
ياسر عرفات فلسطيني في كل شيء إلا لكنته المصرية، وهو يشبه تضاريس فلسطين، الثلج في شمالها، القيظ في جنوبها، هي الساحل وهي الجبل وهي الصحراء، يشبهها في إيجابها ويشبهها في سلبها.
المرة الوحيدة التي رأيت دمعة ياسر عرفات
وبعد،
لم يكن ذلك اللقاء لقائي الأول بأبي عمار، الذي أحببته وأحب أبنائي وعائلتي، فاللقاء الأول كان في العاصمة التونسية في صيف عام 1994، حيث تعرفت إلى فلسطينيته وبداهته عن قرب.
عندما جلسنا معه على طاولة الغداء في بيت الأخ المناضل فوزي النمر (ابن عكا) وزوجته المناضلة فاطمة البرناوي (الأسيرة الفلسطينية الأولى)، في شقتهما في تونس حيث أحجم أبو عمار عن تناول الملوخية فقلت له، وأنا ابن قرية صفورية الفلسطينية المهجرة المعروفة بتحيزها للملوخية: انك تزعل أهل صفورية بعدم تناول الملوخية. فأجابني على الفور: ولكنني ارضي إخوتي الدروز (الذين لا يكنون مودة خاصة للملوخية على أسهل تعبير).
أبو عمار صاحب الذاكرة الموسوعية، خاصة في كل ما يتعلق بفلسطين وكل ما يتعلق بالفلسطينيين.
في الأيام الأولى للاجتياح الإسرائيلي الأخير وحصار الرئيس عرفات وما سمي بعملية "السور الواقي"، سرنا آلاف كثيرة من العرب واليهود نحو حاجز ألرام في مظاهرة جبارة ضد الحصار، وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد استكمل محاصرة المقاطعة في رام الله وتضاربت المعلومات حول مصير الرئيس ياسر عرفات.
وقمع جيش الاحتلال المظاهرة بقوة شديدة، ولم يوفر أحدا، لا صغيرا ولا كبيرا، لا يهوديا ولا عربيا، لا مواطنا عاديا ولا نائبا في البرلمان، وكان نصيبي أن أصبت إصابة بالغة في عيني اليسرى نتيجة ضربة وجهها إليّ احد الجنود بكعب بندقيته، ثمّ عولجت في مستشفى هداسا في القدس الغربية حيث تجمع حولي عدد من الأوباش العنصريين الذين حاولوا الاعتداء عليّ ثانية في المستشفى لولا وقفة قلة من الشباب الأبطال الذين رافقوني.
ورددت وسائل الإعلام في نشراتها المتعاقبة خبر إصابتي في المظاهرة، وكنت طوال الوقت مشغولا بمصير الرئيس واحتمال أن تقتحم سلطات الاحتلال مقره وغرفته وأن تصل إليه شخصيا؟، فقد كنت واثقا أنهم لو وصلوه لاستل مسدسه- الأبدي على خاصرته- ولقضى شهيدا في معركة وجها لوجه مع جنود الاحتلال، فهو لم يخف الموت، وهو الذي وضع عينيه في عيني الموت أكثر من مرة.
خرجت من المستشفى وكان معي في السيارة الأخ الكاتب البارز محمد علي طه والرفيق نكد نكد زميلي في قيادة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وزوجتي د. آمال، التي قادت السيارة حتى دخلنا في الطريق الهابطة من القدس إلى الساحل، إلى مقابل قرية بيت عور التحتا، وإذ بهاتفي النقال يرن: ازايك يا ابني يا محمد... ازاي عينك؟
أجبت غير مصدق: من يتكلم؟
فأجاب الصوت في الطرف الثاني: ياسر عرفات.
لا حاجة لوصف التأثر الذي طغى علينا وعليّ بشكل خاص... فياسر عرفات الذي كان معلقا بين الحياة والموت في مقرّ محاصر، وكهرباء مقطوعة وهواتف نقالة صعبة الشحن وجد الوقت ليطمئن على احد أبناء شعبه.
بعد 32 يوما من الحصار الذي بلغ عتبة مقره في المقاطعة في رام الله خرج أبو عمار ليتفقد الدمار الذي خلّفه عنف وعسف الاحتلال في مدينة رام الله، وقد نجحت بطريقة ما في الوصول إلى رام الله في ذلك اليوم.. حيث التقيت به عند أعلى الدرج في مركز خليل ألسكاكيني الثقافي حيث مكتب شاعر فلسطين محمود درويش.
وتعانقنا طويلا بحرارة.. يومها كانت المرة الأولى والأخيرة التي رأيت فيها دمعة ياسر عرفات، لم تكن تلك دمعة خوف أو حزن، فالخوف لا يعرف طريقه إلى الرئيس والحزن لا ينجح بابتزاز دمعة منه إنها دمعة في لحظة فرح إنساني..
ياسر عرفات لم يقض في مواجهة مع جنود الاحتلال، لكن في باب ترجيح الاحتمالات ثمة حاجة لمراجعة ما قاله سيلفان شالوم، وزير خارجية إسرائيل، في شهر أيلول (سبتمبر) الذي سبق رحيل الرئيس بأن ياسر عرفات سيختفي من الساحة السياسية قبل نهاية العام (2004).
في باب ترجيح الاحتمالات يجب مراجعة محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في عمان، والمادة الكيماوية غير المعروفة التي استعملها جهاز الموساد.
ولماذا اذهب بعيدا؟ ففي الأول من نيسان من العام الماضي كنت عند الأخ الرئيس في مقره في المقاطعة وأثناء اللقاء وصلت تهديدات مباشرة ومعلنة من اريئيل شارون باغتياله حيث لاحظت في وجه أبي عمار، ذلك المزيج من الغضب والاستهتار من جراء تصريحات شارون.
يومها قال لي أبو عمار: إن شارون حاول قتلي 13 مرة وهو يعرف بأنني لست ورقة سهلة .
فهل نجح شارون في المرة الرابعة عشرة بقتل الرئيس ياسر عرفات؟
في باب ترجيح الاحتمالات فان الحقيقة ليست بعيدة عن ذلك إطلاقا.
***************
عرفات يشمّ رائحة الجنة
وبعد
فيما يتعدى محطات الذكريات فان كل محطة من محطات عمل ياسر عرفات في إطار المشروع الوطني تحتاج إلى دراسة والى وقفة طويلة.
ياسر عرفات وقف على رأس المشروع الفلسطيني الأولي لاستعادة ملامح القضية الوطنية للشعب الفلسطيني وإخراجها من سياق التداول، الذي كان قائما بأنها قضية لاجئين وحقوق إنسانية، إلى قضية شعب أُجْلِيَ عن وطنه ويناضل من اجل تقرير مصيره.
إن إقامة م.ت.ف كعنوان وطني وسياسي للشعب الفلسطيني هو المشروع الذي قاده ياسر عرفات في ظروف مستحيلة.
ياسر عرفات وقف على رأس مشروع صياغة البرنامج الوطني الفلسطيني من الميثاق الوطني وحتى دورات المجلس الوطني الفلسطيني وصولا إلى دورة الجزائر وإعلان وثيقة استقلال فلسطين في العام 1988.
لذلك فان صياغة المرجعية السياسية للشعب الفلسطيني على أساس التوافق بين فصائل م.ت.ف ( باستثناء دورة عمّان) تسجل في سجلّ ياسر عرفات.
ياسر عرفات وقف على رأس مشروع المقاومة الفلسطينية لاستعادة الحقوق المسلوبة للشعب الفلسطيني، عبر محطات كثيرة وصعود وهبوط على مدار ما يقارب 40 عاما.
ياسر عرفات أنجز استقلالية القرار الفلسطيني ووحدانية تمثيل م.ت.ف للشعب الفلسطيني، في ظروف تكاثرت فيها المؤامرات والمخططات لاحتواء القضية الفلسطينية
وتغييّب الحركة الوطنية الفلسطينية لمصالح أنظمة عربية مختلفة، حيث أقرت الدول العربية في مؤتمرات القمة بمكانة م.ت.ف.، من مؤتمر فاس إلى الرباط.
ياسر عرفات وقف على رأس الجهود الفلسطينية الناجحة لتثبيت وتعزيز الحضور الدولي للشعب الفلسطيني ولقضيته.
إن قبول م.ت.ف كعضو مراقب في الأمم المتحدة وخطابه في الجمعية العامة (خطاب غصن الزيتون والبندقية) توّجا هذه الجهود في العام 1974، واستمر حضور القضية الفلسطينية- بوصفها الرقم الصعب في الاستقرار الإقليمي والدولي- حتى يومنا هذا.
ياسر عرفات وقف على رأس المشروع التفاوضي مع إسرائيل واتفاق أوسلو المرحلي، وما تضمنه من نقاط رئيسية ثلاث: (1) الاعتراف المتبادل بمعنى الاعتراف إسرائيليا ب م.ت.ف كممثل للشعب الفلسطيني. (2) خوض المعركة على قضية فلسطين من ارض فلسطين وعودة قيادة الشعب الفلسطيني ومعها عشرات الألوف من أبناء شعبنا إلى ارض فلسطين. (3) وضع وصياغة قضايا التفاوض على الحل الدائم: الاستقلال والحدود والقدس واللاجئين وفك المستوطنات والمياه.
وقد حرص طوال الوقت قبل ذلك وبعد ذلك على التحاور مع أوساط سلامية إسرائيلية، واعرف انه كان يعتز بالعلاقة مع ماير فلنر وعوزي بورشطاين وأوري افنيري.
ياسر عرفات وقف على رأس المشروع الفلسطيني لصياغة الثوابت الوطنية الفلسطينية، وسيسجل موقفه وصموده وثباته في تموز (يوليو) من العام 2000 في كامب ديفيد، مع كلينتون وبراك، بأحرف من نور في تاريخ الشعب الفلسطيني.
وسيسجل انه من الزعماء القلائل جدا، وهو الذي لا يملك دولة ولا جيشا ولا عمقا قوميا ولا عمقا دوليا، الذي قال لا لإملاء أمريكي إسرائيلي يدفعه للتفريط بقضية شعبه رغم "نصائح" بعض الزعماء العرب له بقبول صفقة كامب ديفيد 2000.
ياسر عرفات وقف على رأس المشروع الفلسطيني لصيانة معنوية وصمود الشعب الفلسطيني، بعد أن قررت الولايات المتحدة وإسرائيل معاقبته لأنه لم يقبل بشروطها، وأعلنوا انه لا يوجد شريك فلسطيني.
إن صمود أبو عمار الأسطوري أثناء حصار شارون الشرس والعدواني في المقاطعة في رام الله، مثلما كان صموده في حصار شارون له في بيروت قد اثبت أن الاستسلام - في واقع اختلال الموازين لصلاح الاحتلال- ليس قدرا منزلا.
لقد حدثني أبو عمار عن تجربة الحصار في بيروت عندما عرض عليه مختلف "الوسطاء" أن يستسلم، فقد طلب أن يختلي بنفسه لبعض الوقت، ثم خرج إلى رفاقه المناضلين بعد نصف ساعة وقال لهم: والله إنني أشم رائحة الجنة. (اقرأ: الموت ولا الاستسلام).
أبو عمار لم يخف من الموت ولكنه كان يخاف أن يسجل اسمه كمن فرّط بحقوق شعبه وبصمود شعبه.
ياسر عرفات وقف على رأس مشروع إعادة اللحمة الوطنية للشعب الفلسطيني فاحتضن أبناء شعبه الفلسطيني الذين تشبثوا بوطنهم وتعرّضوا لعسف المؤسسة الإسرائيلية وظلمها وعنصريتها وتعرضوا لظلم ذوي القربى من العرب الذين خوّنوهم لمجرد بقاءهم في وطنهم وحملهم الجنسية الإسرائيلية.
الفصل بعد الأخير
وبعد،
فان مسيرة الرئيس ياسر عرفات لم تخل من السلبيات لكن في المحطات والمفاصل المركزية، التي تشكّل مجموع مكونات القضية للشعب الفلسطيني فان قيادة أبو عمار وبصماتها الناصعة واضحة ومنتصبة كعمود النار حتى السماء.
اليوم سنة على رحيل الرئيس فان القضية ما زالت تواجه مؤامرات ومخططات رهيبة.
لكن المقدمة لمواجهة هذه المؤامرات والمخططات تتمثل بصياغة وحدة وطنية فلسطينية حول ومع القيادة الشرعية المنتخبة للشعب الفلسطيني.
الوحدة الوطنية في غياب عمق عربي ودولي هي ليست صلحة عشائر وليست مسرح تجاذب بين فصائل إنما يشكل الالتزام بها التزاما بالقضية الوطنية.
الشعب الفلسطيني هو الطرف الأضعف في معادلة الصراع، حتى ولو كان موحدا، فما بالك إذا حامت فوق رأسه رياح التشرذم وسموم الاقتتال؟
أساس الوحدة الوطنية لا يمكن إلا أن يكون بالاحتكام إلى الثوابت والتعاطي مع مواصفات المرحلة أو التقدم بما هو متاح والتشبث بالثوابت رغم الجراح.
وهذا يعني التمسك بالدولة والاستقلال في حدود 67 وحل قضية اللاجئين وفق الشرعية الدولية والتفاوض لتحقيق الحل الدائم والتقدم لاتجاهه.
ثمة مشهد إقليمي ودولي تعكف أمريكا وإسرائيل على إخراجه وإنتاجه في عصر "دعاة السلام والديمقراطية" جورج دبليو بوش واريئيل شارون.
هذا المشهد تضمّن إنتاج
وإخراج حصار الرئيس ياسر عرفات واغتياله لأنه تمسك بحقوق شعبه.
ويتضمن إنتاج
وإخراج محاكمة صدام (بغضّ النظر عن الموقف منه) بينما حراب المحتل الأمريكي الديمقراطي مشرّعة على رقاب الشعب العراقي.
ويتضمن إنتاج وإخراج الحملة المتعلقة بالملف النووي الإيراني السلمي بينما إسرائيل تسرح وتمرح نوويا خارج الرقابة والمحاسبة، وحتى خارج مطالبتها بالتوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
ويتضمن إنتاج
وإخراج الحملة على سوريا من تقرير ميليس إلى تقرير لارسن بينما جزء من الأرض العربية السورية ما زال يئنّ تحت الاحتلال الإسرائيلي برعاية أمريكا.
هذا المشهد الذي يعكفون على إنتاجه وإخراجه يهدف إلى زرع اليأس والإحباط من مواصلة المعركة ضد الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية وان من تسوّل له نفسه أن يعارضهما فسيكون مآله العقاب الشديد.
في مواجهة هذا المشهد فان ثمة مشهدا آخرا قد رسمه ياسر عرفات بان الاستسلام ليس قدرا منزلا وان الصمود خيار واقعي.. وهذا هو ارثه إلى يوم الدين.