*عن الحرية المتدحرجة على لسان بوش وصادراته الديمقراطية* شيء من تاريخ جرائم الاغتيالات الأمريكية مقابل استثمار اغتيال الحريري*ماذا قال الجنرال زئيفي في تصريحاته السعيدة * درس دمشق تجاه حقوق شعبها* وأمنية متواضعة: ليت المسافرين العرب القدماء والجدد على متن سفن الحرب الأمريكية باتجاه دمشق، هم مجرّد أميين سياسيين وحتى أغبياء، لأن البديل سيكون أخطر*
في فترات الانحطاط تفقد الكلمات معناها. ربما لأن معانيها تكون قد تآكلت تحت وطأة ممارسات تمرير المصالح بالأكاذيب، والنفاق، والهيمنة العنيفة لدى من تسلـّطوا على مصائر البشر - وبأساليب ديمقراطية أحيانًا، فمن قال إن النظام الديمقراطي الانتخابي يمنع دائمًا وصول حثالات للسلطة؟
تلك الممارسات تتم بعيدًا عن المشاهد المصوّرة، بل خلف كواليس التصريحات والمؤتمرات والاجتماعات المتلفزة التي يتم خلالها استعراض شتى أشكال التعبير: تضامن مع الفقراء، وأسف على المنكوبين، وغضب على الإرهابيين، وحزن بغطاء وطني على مقتل جنود شبان كان قد أرسلهم الى حتفهم نفس الباكين عليهم. مشاعر غير إنسانيّة، بل للضرورات السياسية، ترسمها وجوه باردة تتقن وظيفة تبديل الابتسام والتجهـّم وبثّ الفرح والأسى والحزم، وفقًا للهدف والمصلحة.
لا زالت ترنّ في أذنيّ بل تضجّ كلمة "الحرية" التي تكرّرت على لسان جورج بوش. فهذا الرجل يخبرنا أنه يقاتل من أجل "الحرية" على امتداد خطوط طول العالم وعرضه. في العراق، في كوبا، في الشرق الأوسط، في أفغانستان وفي كل بقاع الأرض. يكاد الألم يهدد بتفتيت قلبي وأنا أراه في كل مرة يحاول إفهامنا، عبثًا، أن كل ما يحركه هو دافع داخلي عميق قوامه "تحرير البشر" (لا يشمل تحرير عشرات ملايين المواطنين الأمريكان المشردين في هوامش الفقر والجريمة والسموم وغياب التأمينات الصحية والضمانات الاجتماعية، والأمل).
حسنًا، ولكن ما هو الشيء الذي يجاهد بوش على تحرير البشر منه؟ ما هي طبيعة القيود التي يراها من بيته الأبيض تلفـّنا ويصرّ على كسرها بينما نحن - ذوو الرؤوس اليابسة والعقول غير المنفتحة - لا نزال غير قادرين على رؤية ما يراه ولا فهم ما يقصده؟
يبدو أن هناك خلافًا من النوع الأدبي بين السيد بوش وبين قومنا (قوم يضم كثيرين من قوميات مختلفة تجمعهم تلك الصفة الباهتة المسمّاة "تضامن إنسانيّ") على شرح قصيدة/ أغنية "أعطني حريتي أطلق يديّ".
* بوش وأصوات السماء
لقد روى الوزير الفلسطيني نبيل شعث مؤخّرًا أن بوش كان أسرّ له بالسرّ الكبير، وأبلغه أن ما حرّكه في حملاته العسكرية على شرقنا هو صوت جاءه من السماء داعيا إياه الى دحر الشرّ. فجأة حلـّت النبوة على مركز الحكم في واشنطن وتقمصت جسد زعيم المحافظين الجدد الذي لم يخيّب الآمال فخرج في حملته التي حسب أنها ستكون مظفرة لكنها جرّته الى الوحل. ومن يعلم، لربما أنه لا يكذب ولا يؤلـّف الروايات الخيالية بل إنه مقتنع بما تهيـّأ له أنه سمعه من أصوات انهالت عليه من السماء! وبما أننا لم نحظَ بما نفخته السماء من معجزات في هذا المخلوق نادر الوجود، فلا نزال غير قادرين على الاستيعاب. وهو ما يمنعنا من فهمه والانضمام الى حملته السماوية.
لقد اعتقدت لفترة طويلة أن تلك الملامح التي تجتمع على وجه بوش حين يخاطب الكاميرات لا تؤلف سوى صورة كلاسيكية لابتسامة بلهاء. بعدها عُدت وراجعت نفسي وقررت أنني أنا من سيصبح الأبله لو واصلت اختزال زعيم العالم الحر في خانة البله. فهل يصحّ قول هذا في من اختارته الأغلبية في المجتمع الديمقراطي "رقم واحد" ليقودها ويقود العالم برتبة شرطيّ؟ صحيح أنها أغلبية لا تعرف الى أين يقودها، ولكن لنتجاهل هذا الآن.. وهكذا فلم يقرّ قراري على قناعة أو خلاصة ذكية، ولا سفن تساؤلاتي رست على شاطئ أو جزيرة ولا حتى على مجرّد صخور متناثرة يلاطمها الموج. فالرجل يتحدث في كل مرة بقناعة عميقة تقترب من بعض الحالات النفسيّة التي تحتاج الى خبراء، عن أنه يبذل كل هذا العناء فقط لأنه يريد مصلحتنا ويسعى لفرض الحرية علينا. صحيح اني تساهلت معه في المعضلة المنطقية التي تعكسها فكرة "فرض الحرية" لما تصرخ به من تناقض غير قابل للجسر، لا بل سامحته بسبب ما يُشاع عن خصوصية ذكائه، لكني مع ذلك لم أتخلـّص من فضولي بخصوص سرّ هذا الزعيم فريد عصره.
لكن الأمر الأكيد أنه قد ينجح في إعادتي إلى عقود مضت وقرن انقضى. ففي القرن العشرين ظنّ الكثيرون من العقلانيين السّذج، بكافة منطلقاتهم وأهدافهم الفكرية والسياسية والاجتماعية المتباينة، أن البشرية قد تجاوزت عصور الخزعبلات والخرافات والغيبيّات، واعتمدت عقلانية العلم والمعرفة التجريبية والقياسية منارة لها. تراءى للعديدين ممّن تمتّعوا باستنشاق هواء الحداثة العليل وتجوّلوا بحريّة في فضاءات التنوير الرّحبة أن البشر قطعوا كل الحواجز البالية وتصالحوا مع عقولهم. حتى أن بعض هؤلاء، وبينهم الماركسيون تحديدًا، صدقوا أننا بدأنا بتشييد العالم الجديد على أنقاض سابقه. وبين سطور الكثير من النصوص والتنظيرات المعمقة بكل اللغات بدا أننا تجاوزنا القيود الصدئة الملتفـّة على العقل، تخلصنا من شياطين الخرافة والغيبيات، وهزمنا حتى النازي هتلر ولعبه الدموي على مشاعر الاستعلاء الأنانية المنحطـّة، بعد أن جرّ شعبه وشعوب العالم الى كارثة حرب رهيبة.
دخلنا القرن العشرين وقد نجحنا، لمن نسي، حتى بالتخلّص من الشيوعية اللعينة التي سمّمت عقول الناس بأكاذيب العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر. تلك التي كانت تتجرّأ على تحدّي ومواجهة أسلاف بوش، فرسان العالم الجديد الذين لا يمكن التقليل من شهيتهم من أجل عالم أفضل للشعوب، شرط أن تقبع تحت حوافر خيولهم المعدنية العصرية الفتاكة طبعًا. إعتقدنا أن جنات الديمقراطية ستورق وتزهر وتبرعم ثم تثمر وما علينا سوى الاستلقاء تحت غصونها الوارفة وفي ظلالها المنعشة وقطف ما طاب لنا من ثمار العصر الأمريكي الواعد. ولكننا أسأنا الفهم. فما ان امتدت أيدينا لقطف تفاحة المعرفة الحديثة المحوسبة حتى انهالت علينا الصواريخ!
يومها قيل لنا بكل ما في أخوّة الشعوب من مضمون وعمق ودفء: صحيح أيها السادة أن الشمس الحمراء قد غابت وهو ما يفتح أمام العالم كل أبواب الرخاء، ولكن الخطر لم يغبْ. فهناك مخلوقات استغفلتنا وانطلقت من قلب التاريخ واقتحمت جنتنا، دون أن تتمكن الأقمار الصناعية من رصدها.
لم ننتبه بسبب افتقادنا "الخبرات الحديثة" الى أنه في ساعات الغروب التي رافقت أفول الشمس الحمراء، كانت بعض الأيدي ترسم على صفحة الغسق الدافئة شمسًا شيطانية جديدة خضراء اللون، وسرعان ما فسّر لنا أسلاف فريد عصره بوش أنها شمس الإسلام الفتاكة التي تهدد منجزات الحضارة والديمقراطية والحرية. (وبالنظر الى عدد من الأفلام الجديدة والكتب عظيمة الترويج والـ best sellers يظهر أن خطرًا جديدًا يقترب من كبد السماء التي دعت بوش الى التحرّك، هو الخطر الصيني الأصفر. ذلك التنين المخيف الذي يزداد تهديدًا لقلاع الحرية الفولاذية).
وسط هذه الصناعة النشطة لإنتاج شتى أنواع الخطر بكل ألوان الطيف، يطلّ الواحد على عقله ويتساءل: هل ظلّ للكلام من معنى؟
* إغتيالات بإسم الديمقراطية
لا أعرف عدد الخطابات التي خصصها السيّد بوش للقائد اللبناني المغدور رفيق الحريري. أحيانا ينتابك الشعور أن دم الحريري المسفوك هو ما يُشغل ويـُشعل بوش، وما يؤرق عينيه الى درجة جعلته يدخل مؤخرًا حالة غير مطمئنة من الانفلاتات العصبية ونوبات الغضب التي تقترب من الهستيريا، كما نقلت "ديلي نيوز" الأمريكية في تحقيق واسع عن الحالة النفسيّة للرئيس، نشرته أواخر أكتوبر 2005. لا بل تكاد تظنّ أن المكتب السياسي للحزب الجمهوري اليميني بزعامة بوش قرّر تبنـّي شهيد لبنان ومنحه بأثر رجعي جنسية أمريكية برتبة شهيد معولـَم. ولكن بالطبع فإن الواحد يتيقـّن بعد بذل قليل من جهد التمعـّن أن سادة واشنطن إنما يرقصون رقصة حربهم القادمة فوق دماء الحريري نفسه الذي يزعمون الاهتمام بكشف هوية قتلته. وتسمعهم يضجّون بطبول حروبهم النـّهمة غير المنتهية فيما هم يبنون ملفـًا اتهاميًا لدولة سوريا أملا باجتياحها وفتح العراق على البحر المتوسط عبر فرض هيمنة تامة تمتد من بغداد الى دمشق فبيروت، كي يحلّ استقرار الهيمنة وليعقد حكـّام اسرائيل رقصات النصر الأخير على العرب على طول هذا المحور!
إنه لشيء مؤلم. فلم يعد المنطق البسيط يهمّ كثيرين، خاصة عندما تقصف مسامع وعقول البشر شاشات، بعضها "ينطق بالعربية"، ببيانات و"كشوفات" وتحليلات هدفها فقط غسل الأدمغة وفرض رواية الأسياد. فهناك أسئلة غاية في التلقائية لا يحتاج طرحها الى جهد دماغي خاص، يتم تجاوزها بفظاظة وجلافة. لا بل إن هناك من يستسخف بل ويحارب مجرّد التجرّؤ على طرحها. هؤلاء لا يشكـّلون كتلة متجانسة واحدة، فهذا يسيل لعابه أملا بالالتحاق بالركب الأمريكي المهيمن حتى لو كان متيقنًا في قرارة نفسه من أنه يساهم بهذا في تشويه إجرامي لما حدث من جريمة، ستنتج عنه جرائم جديدة أكبر. وذاك يتحدث بلغة "الواقعية السياسية" و "البراغماتية" بطبعتهما الانتهازية الانهزامية الجبانة ويسارع لمبايعة الأسطول السادس زاحفًا على كرامته. وذاك ليس أكثر من سياسي صغير لا يهمه سوى إشفاء غليل ثأر من النوع القبليّ وانتقام ضيّق الأفق حتى بثمن توريط نفسه وتاريخه في جريمة تعبيد الطريق السياسية لعبور الدبابات الأمريكية الى الشام.
كل هذا طبعًا وواشنطن تواصل حمل لواء الحرية والإصرار على محاسبة من تتهمهم بجرائم الاغتيال واحتكار الحق في إدانتهم بجرّة بندقية. وكأن الاغتيالات هي فعلة غريبة عن السياسة الامريكية. وكأن الارشيف الامريكي لم يكشف رسميًا قبل سنوات قليلة فقط عن تورط المخابرات المركزية الامريكية في اغتيال القائد الايراني المنتخب في حينه مصدّق (صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية كشفت قبل سنوات قليلة وثائق رسمية خرجت من إطار السرية وانكشفت من خلالها اليد الأمريكية الطولى والمباشرة في ذلك الاغتيال الإرهابي).
وكأن الادارة الامريكية لم تطلق جهاز مخابراتها مرارًا لاغتيال القائد الكوبي فيدل كاسترو، وكررت هذه المحاولات (التي فشلت ونأمل أن تظل فاشلة) أكثر من عشرين مرة بحسب عدة مصادر، بينها محاضرة للمفكر التحرري الأمريكي ناعوم تشومسكي، صدر نصّها في كتيّب قبل ثلاث سنوات. وهي محاولات اغتيال جاءت خلال عملية تآمر طويلة السنين خصصت لها ادارة البيت الأبيض ملايين وملايين الدولارات وجنّدت لها العملاء ودرّبتهم على السلاح، لإسقاط حكومة هافانا وإعادة السيطرة على كوبا بعد تحررها من هيمنة الأمريكيين التي جعلتها مجرد مزرعة وماخور لأثريائها، وهو الأمر الذي دفع الفيلسوف الانجليزي حائز جائزة نوبل برتراند راسل الى وصف الرئيس الأمريكي الوسيم جون كندي في حينه بأنه "أكثر دناءة حتى من هتلر"، وأبرق اليه خلال ما عُرف بأزمة الصواريخ قائلا: "لا نريد قتلاً.. أوقف هذا الجنون".
* ذئاب مصابة بإنفلونزا الطيور
القائمة طويلة، ومن يهمه من العرب "مكتشفي أمريكا الجدد" أن يعرف، احترامًا لنفسه على الأقل، يمكنه الإطلاع على التاريخ الدموي الأمريكي الرسمي الذي امتدّ من فيتنام الى الفلبين فنيكاراغوا مرورًا بالشرق الأوسط، حيث ساند حكـّام واشنطن، ولا يزالون، كل دكتاتوريات النفط العربية وأنظمة القمع البوليسية، والاحتلال التوسّعي الإسرائيلي وقمعه الممتدّ على أكثر من نصف قرن للشعب الفلسطيني (الذي جعلت أنظمة التبعيـّة من قضيته ذريعة لإنتاج المقولات الفارغة وتخدير واستغلال وخيانة مصالح شعوبنا العربية).
حاليًا تتلبد غيوم الأسئلة إزاء هذا العجز العربي المشين أمام المخطط الأمريكي لإلحاق سوريا بالعراق المدمَّر المحتلّ، او مسخها مزرعة تابعة على الأقل، باسم محاربة الإرهاب وتصدير الديمقراطية وإشعال البلاد العربية بذلك النوع الأمريكي الشهير من الحرية الدموية الكاذبة، بينما تربض عند أقدامه أنظمة تتصرف كالذئاب الكاسرة في وجه مواطنيها ومنتقديها ومعارضيها، لكنها لا تخجل من طمر رؤوسها في رمال الذلّ والعار، كدجاجات مريضة بإنفلونزا الطيور، فيما تهدد الهيمنة الأمريكية بقعة جديدة من منطقتنا. أنظمة لديها كل الموارد والإمكانيات كي تقدم الخدمات المجانية لجهاز السيطرة الأمريكي، لكنها أجبن حتّى من أن تقول كلمة اعتراضية واحدة لسيد البيت الأبيض المتعجرف.
ليست لديّ أسباب كثيرة للدفاع عن النظام السوري الذي آمل أنه يستوعب الآن أنّ ليس لديه من مناعة و "عمق استراتيجي" أهمّ من حاميته الشعبية، من المواطنين السوريين، وهو ما يستدعي إعادة النظر في الكثير من الممارسات والسياسات القمعية بحقّهم. ولكن الى جانب هذا، لا يوجد أي سبب يجعل من يملك شيئًا من كرامة وضمير حيّ، يوافق على الالتحاق بآلة القتل الأمريكية بزعم دمقرطة سوريا أو غير سوريا. فها نحن نرى ونشهد على صادراتهم الديمقراطية المفخـّخة الى عراق الفلوجة وأبو غريب ومآثر نهب موارده وخيراته.
يجب العودة الى الأسئلة البسيطة، الى المنطق البسيط: من الذي استفاد من اغتيال الحريري؟ من الذي قطف الثمار السياسية ويستعد لجني المحاصيل الاستراتيجية؟
في هذا السياق أقترح الإصغاء لما قاله بصراحة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي الجنرال، أهرون زئيفي، خلال محاضرة حول التطورات السياسية الراهنة في منطقة الشرق الأوسط. فحسب ما نقله مراسلون إسرائيليون من المؤتمر حول "وضع الأمة" الذي نظمه "مركز يافه للأبحاث الإستراتيجية" في سبتمبر الماضي، تحدث الجنرال زئيفي قائلا إن المحيط السياسي في المنطقة أصبح مريحًا أكثر لإسرائيل بفعل عدد من التطورات، أولها التراجع في قوة المسؤولية الجماعية في العالم العربي، فمثلاً - كما قال - لبنان اليوم لست ملزمة باحترام قرارات الجامعة العربية. وفي نفس السياق - كما نقل مراسل الإذاعة الرسمية الإسرائيلية – قال زئيفي إن عملية تفكـّك العروبة والقومية العربية تجعل من وضع اسرائيل أفضل!
المؤسّسة الاسرائيلية لا تتحدّث عن تغيّرات مناخية ولا جيولوجية، بل تشير بوضوح الى ما يحدث في لبنان ويلقي بظله على سوريا. وهنا يمكن للكثيرين بذل بعض المجهود للإجابة عن السؤال حول المستفيد مما يتفاعل بسرعة وخطورة في لبنان وعلى ظهره، وهو ما بدأ بجريمة الاغتيال المتقنة جدًا للشهيد الحريري. هذا الاغتيال الذي يتمّ اليوم استغلال التحقيق الدولي فيه لتجريم المشبوه المباشر الذي تردّد اسمه بما يشبه الحملة الإعلامية المنظّمة منذ لحظة الاغتيال الأولى حتى قبل أن يتبدد دخان الجريمة.
من الغريب أن ترى البعض يختار قراءة مبتورة لأحداث المنطقة، ويختزل المسائل الحساسة بل الخطيرة الى كلام يتردّد إما دون وقع وأثر، أو مع قيمة استثمارية في ماكينة الهيمنة الأمريكية. وكأن أجندة واشنطن بالنسبة لسوريا مسألة جنائية حصرية تعتمد مبادئ ويلسون الشهيرة فقط، وليست جزءًا مما تريده من هيمنة لها ولحلفائها على المنطقة ككلّ. والسؤال: ما الذي يجعل البعض يتجاوز الاشتباه بسوريّا، الذي كان يمكن تفهـّمه كاحتمال نظري يستدعي الفحص، لو لم يتطرّف الى درجة الانخراط التامّ في أسطوانة تحريضية أمريكيّة – إسرائيليّة خبيثة ومكشوفة النوايا وصريحة الأهداف وخطيرة العواقب على لبنان أوّلاً؟
أهو التسرّع والاستسهال وضيق الأفق والأمية السياسية في قراءة المستجدّات فقط؟
المهزلة أنّ الواحد بات يتمنّى من صميم قلبه أن يكون المسافرون القدماء والجدد على متن سفن أسطول الحرب الأمريكية التي توجّه مدافعها باتجاه دمشق (وليس وحدها)، مجرّد متسرّعين وذوي أفق ضيّق وأميين سياسيين وحتى أغبياء، وليس أيّ شيء آخر، لأنّ البديل سيكون مؤلمًا وخطيرًا أكثر بكثير!