رسالة عمان الثانية!السبت 12/11/2005 منار الرشواني- "الغد" الاردنية
هل بقي ما هو أبشع من المذبحة التي ارتكبت ليل الأربعاء الماضي بحق الأردنيين وضيوفهم؟ هل يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر إيلاماً من مشاهدة مناظر الضحايا الشهداء، من النساء والاطفال والرجال، التي ارتقوا إلى السماء نتيجة تلك الجريمة؟ ابشع من الجريمة ذاتها واكثر ايلاما من شعورنا بألم ضحاياها وذويهم هو بيان تبنيها من قبل ما يسمى "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين"! اذ كيف يمكن لآدمي، من اي دين او طائفة او جنس كان، ووفق اي ذريعة قيلت أو اختلقت ان يجرؤ، وبلغة ملؤها "الزهو والفخار!" على تبني مذبحة بحق اطفال ونساء، والانكى الزعم بأنها جاءت تنفيذا لأوامر الله الذي من اسمائه الحسنى الرحمن الرحيم الغفور...! يزعم الإرهابيون المسؤولون عن تنفيذ مذبحة عمان أنهم إنما يقاتلون من أجل تحرير المسلمين من الاحتلال والهيمنة الغربية والإسرائيلية، وأن عدوانهم على عمان إنما هو للقضاء على أعداء الإسلام والمسلمين الموجودين في الأماكن التي انتحر أعضاء تنظيمهم فيها، لكن من طالهم إرهابهم لم يكونوا في الواقع سوى مواطنين اردنيين، مسلمين في اغلبهم، وقبل ذلك كانوا في غالبيتهم العظمى نساء واطفالا! ولو كان لدى المسؤولين عن التفجيرات الارهابية التي غدرت بعمان واهلها، ادنى وازع اخلاقي او إنساني، ناهيك عن ديني يدعون أنه "إسلامي"، وبغض النظر عن اية دوافع أو ذرائع يسوقونها، لبادروا دونما إبطاء -وقد رأوا حصيلة إرهابهم من شهداء أبرياء ليس بينهم "عدو!" واحد للإسلام والمسلمين- إلى الاعتراف بالخطيئة التي ارتكبوها، ولربما حق عليهم قتل أنفسهم استغفارا لله، قبل طلب الصفح من الشهداء وذويهم! لكن أولئك الإرهابيين قرروا أن يمعنوا في إيذائنا وتعذيبنا، ومعنا كل من هو إنسان بحق، بأن اصدروا بيانا ملؤه التبجح بإراقة دماء الاطفال والنساء والشيوخ! أتراهم لم يروا ما اقترفت أيديهم؟ ألم يروا اي أعداء للمسلمين قتلوا؟ بالتأكيد رأوا كل ما فعلوا، لكنهم باتوا بكل ما في الكلمة من معنى "ذوو بصر إنما معدمو البصيرة"، وحق عليهم قول الله تعالى الذي الى دينه المتسامح يسيئون: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" (سورة الحج: آية 46). وهكذا، فقد كان الإرهابيون يؤكدون بما لا يدع مجالا للشك أن ما يرتكبونه من جرائم ليست سوى إرهاب عدمي، إرهاب لأجل الإرهاب بحد ذاته، والذي لا يؤيده إلا ساديّ يستمرئ رؤية عذابات البشر وآلامهم، بل ويصنعها بيديه. هل من فرق فعلا بين الجريمة في عمان وبين قيام قوات الاحتلال الإسرائيلية بدك بيوت المدنيين الفلسطينيين العزل على رؤوسهم، كما حدث في جنين على سبيل المثال لا الحصر، وعندما تطال صواريخ وقذائف قوات الاحتلال الأميركية في العراق الأطفال والنساء والشيوخ؟ أيا ما يقال، فإن ثمة قاسما مشتركا أعظم بين تلك الافعال جميعها، وهو أن العنف الأعمى، سواء أكان إرهاب فرد أو تنظيمات أو إرهاب دولة، إنما هو دليل إفلاس الذي ينتجه الفكر الممسوخ، لكن تبقى أفعال من يقتلون أبناء جلدتهم أشد مضاضة، وتقدِّمنا إلى أعدائنا فعلا على طبق من ذهب، فمن تهن عليه نفسه لا يمكن أن يبقيها عزيزة مصانة في أعين الآخرين! برغم كل ما سبق، وبرغم كل الألم وهول الفاجعة، ليس مبالغة ولا هو محض عاطفة القول إن الأردن، ورمزه عمان، قد انتقم من الذين غدروا به، من المتنكرين لكل ما قدمه، شعبا وقيادة، للعرب والمسلمين، وكان الانتقام بما يليق بكبرياء هذا البلد، وتاريخه وقيمه. لقد انتقم الأردن مرتين. المرة الاولى بالشهداء الذين قدمهم، من حيث هم أبرياء يؤكدون تناقضهم واختلافهم في كل صفات الإنسانية مع جلاديهم الإرهابيين؛ أوليس عميق الدلالة أن يكون أحد الشهداء الضحايا للتفجيرات الإرهابية في عمان هو المخرج مصطفى العقاد، الذي أخرج رائعتين سينمائيتين تحملان صورة الإسلام الحق المتسامح إلى الغرب؟ مازلت أذكر حديثه عن الأسباب التي دفعته إلى إخراج فيلم "عمر المختار"، شيخ الشهداء في تاريخنا الحديث: "أردت أن أستعيد من تاريخنا ما يبعث الأمل في هذه الأمة"! فهل هذا هو عدو الإسلام والمسلمين أم قتلته؟ أما المرة الثانية التي انتقم بها الأردن من أولئك الذين أرادوا سلبه بعضا من أغلى ما يملك، وهو الإنسان والامن والأمان الذي يعيش فيه، هذه المرة كانت بالتوحد الشعبي-الرسمي والشعبي-الشعبي حزنا وغضبا، والاهم من ذلك فعلا ومداواة للجراح. فمن يستمع إلى الناس العاديين في اشد لحظاتهم عفوية، ومن يقرأ ما كتبه المواطنون في الصحف، لا سيما "الغد"، يكاد يظن أن الأردنيين جميعا، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، كانوا في أماكن التنفجيرات الثلاثة في ذات الوقت، لكن صدق المشاعر هذا مرده أن كل اردني يشعر أنه فقد أعزاء بعدد الضحايا في التفجيرات الثلاثة. الفاجعة التي وقعت على الأردن والأردنيين ومحبيهم من خلال التفجيرات الإرهابية ليل الاربعاء الماضي كانت أشبه باختبار للجوهر الثمين الذي يحمله الأردنيون، جوهر الوحدة والانتماء للوطن، الذي يحتاج أن يدركه كثيرون في عالمنا العربي، وأن يتعلموا من الأردنيين صدق معناه. وبعد أن نشرت عمان رسالتها الأولى في التسامح، ها هي تعود لتكون النموذج مرة أخرى، ناشرة رسالتها في الوحدة والانتماء، قولا وفعلا، وقد غلا الثمن.
manar.rashwani@alghad.jo
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|