عمير بيرتس- هل ينتشل "اليسار" الصهيوني من محنته المستعصية؟الأربعاء 16/11/2005 بقلم: أنطوان شلحت - المشهد الاسرائيلي
أعلن عضو الكنيست الحالي والرئيس الأسبق لحزب "العمل"، عمرام متسناع، هذه الأيام، عن تطليق العمل البرلماني، وكذلك السياسي- الحزبي، بـ"الثلاثة". وجاء قراره، بكيفية ما، تعبيرًا عن تململ جوانيّ حيال قدرة الكنيست على النهوض بالأعباء التي تتطلبها المرحلة الحالية على الصعد كافتها. ولم يكن إقدام متسناع على هذه الخطوة أمرًا جديدًا، الجدة كلها، في الساحة الحزبية الإسرائيلية، خصوصًا على خلفية الأزمة السياسية المتفاقمة منذ حوالي خمس سنوات. فالأمر نفسه شهده الكنيست الحالي كما شهده الكنيست السابق، خلال سنوات عمله التي لم تكتمل، وإن على نطاق أوسع مما شهدناه حتى الآن.
واستعراض الأسماء، بشكل عرضي، يشير إلى كون الغالبية العظمى من هؤلاء تنتمي إلى المعسكر الذي يقوده تيار "العمل"، وبضمن ذلك أحزاب تصطف على يساره، إنما داخل المشهد المسوّر بالصهيونية. مثلاً نحا هذا المنحى قبل متسناع عضو الكنيست ووزير المالية الأسبق، أبراهام (بايغه) شوحط ورئيس الكنيست السابق، أبراهام بورغ. كذلك نحته، قبل هؤلاء جميعًا، عضو الكنيست السابقة عنات مؤور، من "ميرتس" بعد أن سبقها إلى ذلك أمنون روبنشتاين من الحزب نفسه. وغادر الساحة من حزب "العمل" شلومو بن عامي ويوسي بيلين (الأخير إلى حزب آخر). والأمر نفسه ينطبق على أوري سافير وأمنون ليبكين- شاحك، وكلاهما من حزب "المركز" الذي اختفى كليًا، لكنهما أقرب إلى "العمل". [أفتح هنا قوسًا لأقول إن حركة مماثلة، لكن على نطاق أضيق، حصلت في أحزاب اليمين مثل انسحاب بنيامين زئيف بيغن من "الاتحاد القومي" وناحوم لنغنطال من "المفدال"، لكنها تندرج في سياق الاقتناع بعدم جدوى فرض عقلانية محدّدة على اليمين الإسرائيلي الجامح].
ولئن كان التطليق يبدو "الحل الأسهل" على المستوى الشخصاني لهؤلاء القادة في "العمل" وأضرابه، الذين عادة ما يصرحون بأن السبب الواقف خلف خطوتهم هو إما الشعور بأنه لم يعد في مقدورهم استنفاد أنفسهم، الذي يحيل بدوره إلى شعور مضاد، مستبطن، بأنهم استنفدوا أنفسهم في حيّز السياسة الحزبية والإسرائيلية عمومًا، وإما خيبة الأمل الكبرى من المناخ السائد الذي يوحي أكثر شيء بانسداد الآفاق كافة، فإن هذا الحل إنما يكشف كذلك عن مشكلة مزمنة. وإذا خصصنا "العمل" وحلفاءه بهذا الحديث حول العزوف عن السياسة، والذي يكاد من فرط تكراره بوتيرة متلاحقة أن يتحوّل إلى ظاهرة في الحلبة الحزبية الإسرائيلية، فإن تلك المشكلة تبدو، في قراءتنا، كامنة في فقدان الهوية السياسية لهذا التيار، ضمن المسعى العام لمجاراة التطورات. ولعل مسلك "العمل" في "الأزمات" الأخيرة التي واجهتها حكومة أريئيل شارون يعكس صيرورة هذا الفقدان بعد أن كان متمثلاً أساسًا، عقب "كامب ديفيد" سنة 2000، في توحيد الخطاب السياسي مع "الليكود"، حسبما نوهنا في أكثر من مناسبة.
ولا تظهر في الأفق المنظور أية مؤشرات تدل، دلالة وافية ومقنعة، على أن تلك الأزمات ستكون فرصة يهتبلها هذا المعسكر لتلمس الطريق صوب استعادة زمام المبادرة. ويمكن، في هذا الصدد، الاستعانة بعديد التعليقات الصحافية الإسرائيلية التي تؤكد، في شبه إجماع، أن ما يمارسه قادة هذا التيار لا يعدو أكثر من كونه تلهيًا بنتائج الوضعية الراهنة، على جميع المستويات، عن جذورها الحقيقية. وفي صلب هذه الجذور الاحتلال الحزيراني في 1967، حتى وإن كانت الغاية القصوى للالتفات إلى هذا الجذر حصرًا هي، في العمق، صرف النظر والاهتمام عما ينطوي عليه هذا الاحتلال كذلك من ثابت ومتغير في السياسة الإسرائيلية الرسمية المؤدلجة بالصهيونية قبل خروجه إلى حيّز التنفيذ.
مهما تكن هذه التعليقات فإن أحدها أشار، بشكل رئيس، إلى إخفاق "اليسار الإسرائيلي" (وهو تعريف يضم المصطلحون عليه تحت كنفه جميع ألوان الطيف التي يقودها "العمل") منذ 1967- ارتباطًا بالاحتلال السالف طبعًا- في "إبداع أجندته المخصوصة" واكتفائه بالتعبير عن "المعارضة لأجندة اليمين" فحسب.
مثلاً الشعار "الأموال للأحياء الفقيرة وليس للمستوطنات" (الكولونيالية)، الذي يتبناه هذا "اليسار" تقليديًا ويتباهى به ولد، تاريخيًا، كجواب مضاد على مشروع "ترميم الأحياء" الذي اعتمده زعيم "الليكود" التاريخي مناحيم بيغن، في أواخر السبعينيات. وعلى هذا يمكن قياس مواقف عديدة أخرى. والخلاصة من ذلك هي: طالما أن هذا "اليسار" لا يطرح برنامجًا وضعيًا يحدّد ما الذي ينبغي فعله بالمبادرة إليه والمبادأة به، وليس فقط ما الذي يتوجب معارضته، فإنه سيبقى مغتربًا عن الواقع الإسرائيلي، غير فاعل فيه بشكل مغاير.
وحتى قبيل استقالة متسناع وشوحط وبورغ أو اعتزالهم استقطر المعلقون من المستجدات الأخيرة حصيلة مؤداها غياب وجود معارضة في إسرائيل، فيما شدّد البعض على أن السبب وراء ذلك هو واحد ووحيد، "أن هذه المعارضة المفترضة منشغلة فقط بشقّ طريقها إلى الحكومة".
ما هي أهمية هذه التداعيات، الآن بالذات؟.
(*) أولاً- أنها تفضح، في جانبها الأشد إثارة، للمرة الكذا، ماهية هذا "اليسار الإسرائيلي"، الذي بات يأكل أبناءه "البررة" أيضًا.
(*) ثانيًا- أنها تكشف زيف "نداءات الاستغاثة"، التي لا ينفك "اليسار" المذكور يطلقها، بحجة أنه محتاج إلى تعضيد "في مواجهة اليمين". فليس من شأن التجاء "العمل" وسائر قوى وأحزاب "اليسار الصهيوني" إلى التهويل من خطر اليمين، الخطير فعلاً، أن يصرف النظر عن أن سببية هذا التهويل هي مجرّد مصالح حزبية ضيقة.
(*) ثالثًا- أنها تضعنا مع جميع المعنيين في صورة النسيج المحكم لهذا "اليسار"، الذي يتحمل وزره "المأكولون" أيضًا. فإن متسناع ذاته يتوجه إلى منزله خائب الآمال ومُخيبا للآمال، وهو يمثل جيلين من السياسيين الإسرائيليين- اليوم في سن الخمسين والستين ونيّف- الذين جاءوا بعد جيل المؤسسين، وبدلا من أن يجلبوا معهم روحا جديدة انقلابية ثورية وأيديولوجية واضحة المعالم أصبحوا دعاة متفرغين راوحوا في مكانهم داخل حلقة السياسة الإسرائيلية العاجزة ولم يتركوا خلفهم إلا عدة تغيرات هيكلية تنظيمية، على حدّ ما يقول الصحافي جدعون ليفي عن أبراهام بورغ مثلاً.
نورد كل ذلك حتى من قبل أن نفكر بخوض الحديث عن موقع أجندتنا المخصوصة في تفكير هذا "اليسار" وفي مسلكه، والتي نعتقد بأنه لا حاجة إلى كبير عناء لتوكيد أنها لم تكن واردة بقوة في حساباته.
بيد أن كلّ ما مرّ ذكره هو بمثابة مقدمة لطرح السؤال حول قدرة الرئيس الجديد لحزب "العمل"، عمير بيرتس، على انتشال "اليسار الصهيوني" من محنته؟.
إنه باختصار سؤال مطروح على المستقبل، والمستقبل وحده هو الكفيل بإثبات ما إذا كان انتخاب بيرتس يشكّل "استثمارًا للمدى البعيد"، على ما يقول النائب يوسي سريد، من "ميرتس- ياحد"، في تعليق حمل عنوان "فرصة جديدة لليسار الإسرائيلي" ("هآرتس"، 11 تشرين الثاني 2005)، الذي مضى يقول فيه: رويدًا رويدًا ستنظم المعارضة الإسرائيلية صفوفها ويتبلور البديل المطلوب، ولن يبعد اليوم الذي سيتغيّر فيه الحكم. عاجلاً أم آجلاً سيضيق الجمهور ذرعًا بالرأسمالية الخنزيرية التي تنكّل بالمسنين والأولاد وسيشعر بالغثيان من "الدولة اليهودية" التي فقدت رأسها وقلبها اليهودي. والآن فإن كل شيء منوط ببيرتس أولاً، هذا إذا كانت لديه القوة لإقامة جبهة الإنقاذ الإسرائيلية في حزب ممزّق ومتنازع يأكل أبناءه. وتبقى المبادرة في يديه.
للمعلومية فقط فإن يوسي سريد نفسه هو من جيل الأبناء "المأكولين" السابق في "العمل"، الذي كان حزبه قبل أن ينتقل إلى حزبه الحالي السالف ويقتفي أثره يوسي بيلين، الذي أصبح رئيسه من غير أن يفلح في دخول الكنيست، الذي على ما يبدو أضحى أشبه بـ"ميدوزا" تبعث الرعب في نفوس المزيد من ساسة إسرائيل وبرلمانييها فيلوذون بالفرار.
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|