إقتصادي إجتماعي
قضايا سياسية عامة
تقارير خاصة
مع الحدث
مقالات الضيوف



الدّيــَكــة

السبت 19/11/2005
قصة: هشام نفاع

منذ صباه عاش عقدة المثل القائل إن "الديك الفصيح من البيضة يصيح". وظلّ يعي تمامًا، حتى اليوم، وهو في ريعان شبابه، أنه لا يزال غير قادر على الصياح بل إنه يفضّل الصوت الهادئ حتى وإن لم يلفت إليه وسائل الإعلام ولا حتى أنظار المارّة.
في بعض الليالي كان يصرعه الأرق فيظل يقظًا يأكله التعب وهو يردّد مستنكرًا: يا الله، مستحيل! هل يمكن أن تصيح وأنت في البيضة؟ وحتى لو صِحت من هناك فهل سيخترق صوتك قشرتها ويخرج الى العالم الفسيح؟ ولو افترضنا أنه خرج بالفعل، فمن الذي سيلتفت الى صياح مكبوت في قلب بيضة؟
فكّر وتعذّب ولكنه لم يجد أجوبة على أسئلته التي ظلـّت تلسع جوانب رأسه باستمرار.
في إحدى المرّات، قرب السياج الذي بدأ يعلوه الصّدأ منذ أن أهمله أهل القنّ، سمع عجوزًا تصرخ "كل ديك على مزبلته صيّاح". ورغم أنه مثلٌ غير جديد عليه وسبق أن سمعه، فقد صعقه القول وراح يركض في المساحة الضيـّقة المحصورة بين أسلاك السياج كمن مسّه مسّ وقد بات منغـَّصًا بمصيبتين بدل الواحدة، وصار يقوقئ مردّدًا: هل بات محكومًا علينا باعتلاء المزابل حتى نـُسمـِع صياحنا..
أما لهذا الصّياح من آخـِر..
فإما أن تطلقه من بيضة هشّة لعينة أو أن يلعلع به منقارك من على مزبلة عفنة؟ متى سأقول كلمتي بشكل طبيعي، بعيدًا عن برودة جدران البيض ودون غوص في وحل المزابل؟
أقعى في زاوية بعيدة عن ضجيج الطريق العام وهو يقلـّب أفكاره وبناتها وحفيداتها. وتذكـّر أن همّه كبير. فضمن مسؤولياته قنّ يعجّ بالدجاج وعليه يقع واجب رعايتها وضمان عيشها وسلامها الأهليّ ومناعتها المجتمعية. ولكن ماذا ظلّ بوسعه العمل وقد صار المطلوب منه فقط إما أن يصيح بصوت دفين من بيضة، أو بصوت تظاهريّ من على قمة مزبلة رفيعة.
كاد همـّه يقتله، وتمزّق ما بين تكريس حياته للخوض في سؤال المعنى المرتبط بفعل الصياح، وما بين القيام بواجبه المجتمعي تجاه زملائه في القن، فكبت هواجسه المؤلمة.
وفي لحظة غير متوقعة، خلال واحدة من أمسيات تقليب الأفكار ومواجهة شرور العقل، سمع فجأة جلبة وتدافعًا في الجوار فهبّ من فوره ليجد نفسه في إزاء معركة حامية الوطيس وقد طار شرر الشرور فيها مهددًا بإحراق كل ما يطاله وإليه يصل.
فقد علقت أوار الحرب بين اثنين من فتيان القن، وراح معظم قاطنو المكان، بدلا من فكّ الشجار، يؤلـّبون هذا على ذاك فيما هما ينقران الواحد عـُرف غريمه حتى أدمى أحدهما الآخر..
وعبثًا راحت محاولته لإعادة السلام الأهلي في القنّ الى سابق عهده، الذي قرأ عنه في الأرشيف المهمل الذي غطته أتربة وغبار الانتقالة العصرية. فقد نتف أحد الخصوم ريش رأس غريمه حتى كاد يودعه قبضة عزرائيل، فيما لم ينجُ الثاني من جروح أصابته حتى كادت تودي به الى الجحيم، أو الى التربّع المؤبـّد فوق كرسيّ العجلات على الأقلّ.
اغتمّ قلبه، وملأ الحزن صدره، وتقهقر الى أطراف السياج.
وفيما هو يواجه كربه العميق، سمع أحدهم يصف أمجاد زعيم معسكره بأنه منذ صغره أثبت أن الديك الفصيح من البيضة يصيح، فردّ زميل له مؤكدًا بالقول: يا أخي هذا ديك! وهذه مزبلته! وكل ديك على مزبلته صيّاح.
وظلا ّ يقوقئان في هرج وفي مرج حتى غاب صوتهما في البعيد، وأودعاه شرّ الصمت.
هنا انكسر. وشعر أن الحزن يفتـّت قلبه وأنه لم يعد لديه ما يفعله إزاء صراعات الديكة الجدد هذه التي تنحصر أوهامها بين ما يقع خلف جدران البيض وحتى قمم المزابل، ففرد جناحيه وقفز من فوق السّور وهو يتهادى بين شرّين: شرّ الدمعة المنتحبة على ما حلّ بكل هذا، وشرّ الضحكة الهازئة مما حلّ به.
من يومها غاب.
لم يعلم أحد ماذا حلّ به ولا أين حَلّ ولا إذا ما لاقى لمسألة الصياح أيّ حلّ.

(تشرين الأول 2005)

تحضير للطباعة
أرسل لصديق -
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع

الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر