معركة الإعلام والإرشاد القائمة اليوم مع التطرف لا تتعامل إلا مع قمة الجليد، صحيح أن حملة التصدي والإدانة للأفكار والممارسات المتطرفة شاركت في إنشاء حالة من الإجماع الوطني، واصطفاف الرأي العام الوطني والعالمي في مواجهة التطرف والعنف، ولكنها أيضا كانت الجزء السهل من السياسات العامة الوطنية المفترضة، فالقضية ابتداء كانت حقا واضحا في مواجهة جريمة شنيعة.
ولكن الجزء الأساسي والمهم من مواجهة العنف والتطرف يأتي في سياق آخر أكثر أهمية وصعوبة، ويجب ألا تشغلنا الأحداث المباشرة عن العنف والتطرف الكامن والمنتشر والممتد في الثقافة والمجتمعات والممارسات، والذي تساعد عليه حالة الفوضى والارتجال وضعف المستوى وغياب البوصلة والإهمال في المؤسسات والحالة الثقافية والعامة والسائدة، وتزيد الطين بلة أيضا عمليات الحشد والتعبئة القائمة، فكثير من مواقف وسياسات مواجهة العنف تكاد تشبه ما قام به الدب الذي ألقى الصخرة على وجه صاحبه ليطرد عنه الذباب.
صحيح أن أغلبية كبيرة تحولت من تأييد العنف والتطرف إلى معارضته، ولكن يجب ألا تخدعنا هذه النتيجة لأنها ربما تكون حالة عاطفية مؤقتة يمكن أن تقلبها عملية أو حادثة أخرى في بلد آخر، فتعود من جديد أوهام البطولة والمقاومة "الدون كيشوتية" ومقولات أولوية مقاومة الأميركيين والكفار بأي وسيلة ولو بالانتحار وقتل الدبلوماسيين والتضحية بالعباد والبلاد التي يتبرع بها مهرجون على هيئة كتاب ودعاة وسياسيين ووعاظ وقادة رأي لا يتبرعون إلا بإشعال الفتن، ولا يجدون فرصة للاستثمار إلا في الإثارة ومخاطبة الغرائز السياسية والدينية والعاطفية "وفيكم سماعون لهم".
إن معركة كسب العقول والقلوب هي بعيدة حتما عن التوظيف السياسي والإعلامي للحظة القائمة والانشغال بها في صيانة واستدراك الخسائر الناشئة عن سياسات وبرامج أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية، فالإجماع الوطني في مواجهة العنف لا يعني تأييد البرامج والسياسات التي فشلت في تنمية الموارد ورفع مستوى المعيشة ومواجهة البطالة ووقف تدهور الخدمات التعليمية والصحية، وقصور الرعاية الاجتماعية، وتهميش فئات واسعة من المواطنين، وغض الطرف عن الإصلاح السياسي والسياسي أيضا.
لماذا لا يؤدي انتشار التعليم بين أكثر من 90% من المواطنين إلى زيادة انتشار الكتب والمجلات الثقافية والفلسفية والعلمية والاجتماعية والسياسية الرصينة والجادة؟ لماذا لا تؤدي الحالة الأكاديمية القائمة إلى حالة بحث وتقدم علمي واسع مؤثر؟ أين هي البحوث والإضافات والإنجازات العلمية لحوالي عشرة آلاف أستاذ جامعي أردني؟
لماذا تنجح روايات وأفلام غربية وبموضوعات عربية وشرقية وإسلامية في اجتذاب أعداد كبيرة وهائلة من القراء والجمهور العربي، ولا نجد عملا روائيا وفنيا عربيا جديرا بالاحترام والاعتبار؟ أين الأفلام والأعمال الدرامية الأردنية والمستمدة من الحياة والتاريخ والثقافة والتحديات الاجتماعية والثقافية في الأردن والوطن العربي والعالم أيضا؟
لماذا لا تؤدي أربعة آلاف مسجد الأردن يقوم عليها عشرة آلاف شخص يفترض أنهم تلقوا تأهيلا علميا شرعيا دورا فاعلا ومؤثرا في المرجعية الفقهية التنوير والتوعية، ونشر العلم الشرعي الصحيح بدلا من الخرافات والأساطير والزجر للمواطنين وتعذيبهم بالصراخ والميكروفونات والإطالة والحصار، وجلدهم بقصص وحكايات ومواعظ عن "الشجاع الأقرع والعقارب وعلامات الساعة الخفية والمعلنة بدلا من تقديم علم حقيقي يساعد على فهم دينهم ومعاملاتهم اليومية مستمد من المصادر العلمية الصحيحة؟؟
ماذا تفعل وزارة الثقافة والروابط والجمعيات الثقافية؟ ماذا قدمت للمجتمع؟ ولماذا تعجز عن اكتساب الناس وتأدية رسالة ثقافية ووطنية حقيقية يجتمع حولها المواطنون؟ ماذا قدمت دور النشر ومراكز الدراسات من إنتاج فكري وثقافي وعلمي؟ وماذا استهلك المواطنون من خدمات علمية وثقافية؟
المجتمع الذي لا يقبل على القراءة والعلم والثقافة ستزدهر فيه الخرافات والاساطير، وسيكون ضحية للعنف والشعوذة والإثارة، والمؤسسات العامة والمجتمعية القائمة بأموال المواطنين وضرائبهم والتي تعجز عن إنشاء حالة من التأهيل المجتمعي والثقافة الوطنية والعلمية يجب أن تلوم نفسها أولا عندما تجد نفسها ومجتمعاتها خارج عصر المعرفة.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo