على الرغم من الحراك والجدل السياسي الكبير حول الإصلاح في العديد من الدول العربية، إلا أن القدرة على قراءة مؤشرات المرحلة القادمة واتجاهاتها يبدو من الصعوبة بمكان، في ضوء ضبابية موازين الصراع الداخلي القائمة في أغلب الدول من ناحية، وخصوصية كل دولة وطبيعة القوى الموجودة فيها من ناحية أخرى.
فلقد انتعش طموح الإصلاح في بداية هذه السنة، من خلال تداعيات ثورة الأرز في لبنان والانتخابات في العراق والسعودية وصعود حركة كفاية المصرية وامتدادها. ويمكن رصد العديد من المقالات العربية والغربية في الفترة بين شباط وتموز من هذا العام التي تحدثت بتفاؤل كبير عن "الربيع العربي" القادم. إلاّ أنّ تراجعا كبيرا حدث منذ تموز على أثر تفجيرات لندن وشرم الشيخ، وقد لوحظ تذبذب في الضغوط الأميركية، وبدا الأمر وكأن النظم العربية نجحت في إعادة المنطقة - بعد التفجيرات- إلى حالة "الطوارئ التاريخية".
وتبدو معالم المشهد العربي الرئيسية اليوم في ثلاثة اتجاهات:
الأول؛ النكوص نحو التعبيرات الطائفية والعرقية والمذهبية التي تصبغ إدارة الصراع الداخلي. فيما تأخذ الديمقراطية طابعا توافقيا من خلال تقسيم النفوذ السياسي والمناصب العليا بين الطوائف والأعراق المختلفة. والحالة العراقية واللبنانية هي الشاهد الأكبر على هذا الاتجاه. والذي تبدو ملامح تطوره القادم غير محسومة: إما باتجاه عدم الاستقرار السياسي (وربما السيناريو الأسوأ الاحتراب أو التقسيم)، أو نشوء جماعة وطنية تعلو على الاعتبارات الأولية، أو تكريس تقاليد "الديمقراطية التوافقية" والأخذ بها كصيغة مستقرة للنظام السياسي.
الثاني؛ النموذج الملكي أوالمحافظ، ويسير سيناريو الإصلاح من القمة إلى القاعدة، من خلال رغبة رأس الحكم بالقيام بإصلاحات سياسية تدريجية تحسن من حالة الديمقراطية مع الحفاظ على الاستقرار والتوازن الداخلي، والمثال الواضح في هذا السياق كل من الأردن والمغرب والبحرين، وبقدر ما السعودية، ويمتاز هذا النموذج بحالة من التعايش بين النظام و"القوى الإسلامية المعتدلة" الرئيسية.
الثالث؛ نموذج "السلطة، الاخوان والحركة المدنية الديمقراطية"، ويحمل قدرا كبيرا من الصراع والحراك. ويظهر هذا النموذج من خلال المثالين السوري والمصري. وهما حالتان متشابهتان في السمات العامة للتطور والصراع، وإن اختلفتا في كثير من الشروط الداخلية والإقليمية.
يمتاز النموذج الأخير (السوري والمصري) بوجود ثلاث قوى رئيسية متنافسة في تحديد طبيعة المرحلة القادمة:
1. نظام الحكم الذي يتسم بسيطرة حزب واحد، وينقسم اليوم إلى حرس قديم يمثلون سدنة المرحلة والمحافظين ورافضي التغيير، والجيل الجديد الذي يدرك تماما أن قدرة المرحلة الحالية على الديمومة انتهت، وأن هناك ضرورة للتغيير، لكنه يحاول ضبط التغيير من خلال نسق النظام ودينامياته ووفقا لمصالح النخب الجديدة.
في سورية، يبدو الجيل الجديد في النخبة الملتفة حول الرئيس بشار من الجيل الشاب من قيادات البعث ومن الطبقة التكنوقراطية ذات الميول الليبرالية في النظام. ويرصد المفكر العربي برهان غليون - في بحثه المتميز "الرأسمالية العشائرية" (ضمن كتاب الإصلاح في سورية، تحرير الزميل والصديق رضوان زيادة)- معالم التحول والتطوير لدى الطبقة الجديدة من حزب البعث، والتي تستعمل مصطلح التطوير والتحديث بدلا من الإصلاح السياسي، وتركز على الانفتاح الاقتصادي القائم على احتكار نخبة معينة لأغلب المصالح الاقتصادية ومنافع القطاع الخاص، وتمتاز هذه النخبة بعلاقات القرابة والمصاهرة. وهو ما يطلق عليه غليون: حلول "رأسمالية العشائر" بدلا من "رأسمالية البيروقراطية".
أما في مصر فيتولى جمال مبارك قيادة النخبة الجديدة في الحزب الوطني والنظام، ويستعين بنخبة من أساتذة العلوم السياسية الليبراليين في رسم ملامح التحول وإدارة التغيير القادم من خلال ما يسمى بـ"لجنة السياسات" في الحزب الوطني. ويبدو واضحا أن الصراع داخل الحزب الحاكم في كل من سورية ومصر محسوم لصالح النخب الصاعدة الجديدة بينما يعيش الحرس القديم آخر أيامه في السلطة.
2. المعارضة السياسية؛ في الوقت الذي تعاني فيه القوى اليسارية والقومية من ضعف وعجز باد للعيان، فإنها تتحالف مع الحركة المدنية- الديمقراطية الصاعدة والمنطلقة من رحم المجتمع المدني. ففي مصر تمكنت حركة كفاية من الانتقال – بفترة محدودة- من حركة نخبوية عفوية صغيرة إلى حركة مجتمعية مدنية تحظى بتأييد فئات مختلفة من المجتمع من القضاة والنقابات وأساتذة الجامعات والطلاب والمثقفين، وترافقت هذه الحركة مع ثورة إعلامية- صحفية جريئة أحدثت هزات كبيرة في شرعية الحالة السياسية القائمة، ودفعت باتجاه التغيير.
على الطرف السوري برزت ظاهرة المنتديات والصالونات السياسية والثقافية المعارضة، وتجرأ عدد من الكتاب والمثقفين والسياسيين على رفع الصوت المطالب بالتغيير والإصلاح في الصحف اللبنانية والغربية.
الحركة المدنية- الديمقراطية وإن كانت ما تزال محدودة اجتماعيا، ولم تصل بعد مرحلة الشعبية، إلا أنها تساهم من خلال نشاطها وصعودها بتجذير الحوار السياسي الداخلي، والتمهيد لبناء قوى اجتماعية وسياسية تحمل مطالب الإصلاح وتتفق على معالمه العامة.
3. أما الطرف الثالث فهي "جماعة الأخوان المسلمين" التي أثبتت في الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة - في المرحلة الأولى والثانية (إلى الآن)- أنها الحركة التي تستفرد بالشارع، وأنها بالفعل البديل السياسي عن الحالة السياسية القائمة. كما يشير مراقبون ومحللون أن ذلك ينطبق تماما على سورية، فيما لو أجريت انتخابات أو وُجِدت فرصة فإن جماعة الاخوان سرعان ما تسيطر على الشارع السوري.
حضور الاخوان المسلمين ونفوذهم في الشارع يعيد طرح السؤال القديم- الجديد هل تمثل جماعة الأخوان خيارا سياسيا مدنيا- ديمقراطيا، وتعد بذلك أحد أبرز تعبيرات طموح الإصلاح السياسي العربي؟ أم أنها حركة دينية تتخذ من الديمقراطية سلما للوصول إلى أهدافها السياسية وسرعان ما تنقلب على الديمقراطية؟
m.aburumman@alghad.jo