بعد ثلاثة أيام من المداولات واللقاءات والمناقشات في إطار "الاجتماع التحضيري لمؤتمر الوفاق الوطني العراقي"، استطاع المجتمعون التوافق على قضية تبدو على درجة كبيرة من الأهمية، وهي "جدولة الانسحاب الأجنبي من العراق بالتزامن مع بناء قدرات القوات العراقية".
وبالنظر إلى الخلاف الموجود فعلا بين الفصائل والقوى العراقية بشأن توصيف الوجود الاميركي (وقوات التحالف الأخرى) في العراق، هل هو احتلال، وفق رأي السنة العراقيين خصوصا، أم أنه وجود لمساعدة العراق وشعبه على تحقيق الديمقراطية والاستقرار وإعادة البناء، الأمر الذي يجد سنده في قرارات الامم المتحدة الصادرة بعد الغزو، وقبل ذلك في طلب الحكومة العراقية ذاتها استمرار وجود هذه القوات؟ بالنظر إلى كل ذلك، هل يمكن القول إن التوافق على قضية من وزن الانسحاب الأميركي هو بداية اتفاق ومؤشر على بداية عودة للُّحمة الوطنية العراقية؛ وبالتالي فإن وحدة المطلب تعني وحدة الهدف أيضا؟
طبيعة وخطورة الخلافات –سواء تلك التي كشف عنها الاحتلال الأميركي أو التي قام هو بخلقها وتعميقها منذ انهيار النظام السابق- بين الفصائل والقوى العراقية المختلفة، وهي الخلافات التي لا تبدو أنها في طريقها إلى الحل حتى الآن، تجعل من الإجابة عن السؤال السابق بـ"لا" أقرب إلى الصواب، بل إن هكذا توافق عراقي لا يخفي إلا مزيدا من الشقاق والصراع المستقبلي بين تلك القوى والفصائل، كونه توافقا مبنيا على حسابات متعارضة تماما!
فمن وجهة نظرنا، يمكن تفسير التوافق العراقي باقتناع كل من الشيعة والأكراد تحديدا بقدرتهما على الحفاظ على سيطرتهما على مسرح العمليات في العراق على المستويين السياسي والعسكري -ولو من خلال تقاسم المصالح ومناطق النفوذ- باعتبار ذلك تعويضا عن عقود طويلة من الظلم، ناهيك عن كونه حقا تجب ممارسته باسم الأغلبية. وفي المقابل، ينظر السنة العراقيون إلى انسحاب أميركي مرجو بأنه قد يكون بداية لانتهاء مسيرة تدهور مكانتهم على المستويين السياسي والعسكري، واستعادة المكانة السابقة، أو بعض منها على الأقل، داخل الدولة العراقية.
القضية السابقة تقودنا إلى القضية الاوسع والاشمل، وهي الانسحاب الأميركي من العراق، وإذا أردنا أن نكون أكثر صراحة، فلا بد لنا من مواجهة السؤال: هل من مصلحة العراق والعراقيين، وكل المؤيدين والمتعاطفين معهم حصول انسحاب أميركي في ظل الظروف الحالية؟
البعض يحاول تصوير أي انسحاب أميركي، ووفق أية شروط، بمثابة هزيمة للمشروع الأميركي "الإمبريالي" في المنطقة، لكن الحقيقة التي نتعامى عنها كونها لا تدغدغ عواطفنا هي خلاف ذلك تماما! فمن ناحية، لن يتعدى أي انسحاب أميركي على الأرض كونه "إعادة انتشار" نحو القواعد العسكرية التي شرعت الولايات المتحدة في إنشائها داخل العراق، ولربما أنجزت بعضها، أو بعبارة أخرى، وهو ما يعني في النتيجة استبدال الأهداف (الجنود) الأميركية بقوات عراقية تتناقض التقديرات العسكرية والسياسية الأميركية حول جاهزيتها، وتبدو وقودا نموذجيا سريع الاشتعال في حرب أهلية عراقية. أما من ناحية ثانية، فلو افترضنا أن الولايات المتحدة قررت أن يكون انسحابها من العراق حقيقيا وناجزا بكل ما في الكلمة من معنى وليس مجرد "إعادة انتشار" نحو قواعدها في هذا البلد، فإن مثل هذا الانسحاب سيكون أكبر وأجمل هدية تقدم للإدارة الأميركية، لأنه ببساطة سيعني إعفاء هذه الإدارة من كامل مسؤوليتها عن الأوضاع التي آل إليها العراق منذ الغزو الأميركي، فالولايات المتحدة تتمنى لو أنها تستطيع إغلاق قدر الزيت المشتعل ليحرق نفسه بعيدا عنها!
ليس مطروحا للنقاش على الإطلاق ما إذا كان الوجود الأميركي هو احتلال أم تحرير وبناء، فالقضية محسومة حتما، لكن تظل المسألة في العراق أيضا، شئنا ذلك أم أبينا، أبعد من مجرد احتلال وجلاء واستقلال؛ فوفقا للحقائق على الأرض، يبدو استمرار وجود القوات الأميركية في العراق الوسيلة الأمثل حتى الآن لتحميل الولايات المتحدة مسؤولية سياساتها في العراق،بل وجعلها تدفع الثمن على ما اقترفته بحق الشعب العراقي بدل أن يدفع هذا الشعب الثمن مرة أخرى، أما الأهم فهو أن هذا الوجود قد يمنح هامشا يمكن من خلاله بناء توافق وطني عراقي يقلل خسائر الحرب الأهلية اللاحقة على الانسحاب الأميركي، التي يبدو أن كل الأطراف العراقية تعتقد أنها قادرة على كسبها أو تفاديها بشروطها!
manar.rashwani@alghad.jo