كانت أفغانستان(كما تايلند ومنغوليا) منذ أوائل القرن الثامن عشر هي حلقة التوازن بين القوى العظمى المتنافسة، وكان نشوؤها واستقلالها في مرحلة مبكرة (1747) والحفاظ عليها دولة مستقلة فكرة عالمية تصالحية تمنع استقواء دولة من الدول الكبرى المتصارعة والمتنافسة في المنطقة، الهند البريطانية، والصين، وروسيا، وإيران.
ومطت عنق أفغانستان ليضم إليها ممر "واخان" الاستراتيجي لأن سيادة أي دولة أخرى من الدول القوية المتنافسة عليه سيعطيها ميزة حاسمة ويحرم الدول الكبرى ويضر مصالحها. وكان الدخول السوفييتي لأفغانستان إخلالا باتفاق دولي دام أكثر من مائتين وخمسين عاما يقضي بحيادها واستقلالها، وكان أيضا فرصة للولايات المتحدة الأميركية المهزومة في فيتنام وإيران لتستعيد المبادرة في الصراع.
تدفقت على المجاهدين الأفغان المعونات المالية والعسكرية والإعلامية بسخاء وإغداق يفوق قدرتهم على الاستيعاب، وفتح المجال للتطوع بين الشباب في العالم العربي والإسلامي، فوفد إلى أفغانستان آلاف الشباب الذين كانت تستقبلهم مكاتب ومعسكرات كثيرة ممتدة ومزودة بكل ما تحتاج إليه، وتدفقت أيضا على المؤسسات والمكاتب والشخصيات التي تعمل في خدمة القضية الأفغانية آلاف الملايين من الدولارات من الدول والمتبرعين بالإضافة بالطبع إلى أكثر من عشرة أضعافها كانت تصل إلى منظمات المجاهدين الأفغان، عدا التسهيلات الحكومية والدولية التي منحت للمجاهدين من معظم دول العالم.
وأتاحت الوفرة المالية وفرص الاستقرار والتدريب وأسواق السلاح المفتوحة في باكستان الفرصة للجماعات الإسلامية لإعادة تنظيم وترتيب عناصرها في باكستان والحدود الأفغانية الباكستانية وفي داخل أفغانستان أيضا، وكانت الجماعات المصرية المنظمة من قبل والتي خاضت تجربة قتالية وتنظيمية في مصر طوال السبعينيات هي الأكثر استعدادا وتوظيفا للفرص المتاحة في أفغانستان. أما الشباب القادمون من دول أخرى، السعودية واليمن والجزائر كانت أكثر الدول تصديرا للمتطوعين، ثم الأردن وسورية(من الإخوان المسلمين) واستخدمت المنظمات الإسلامية القتالية في كشمير والفلبين وميانمار ثم آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الفرص والتسهيلات المتاحة لإعادة تجميع عناصرها وتدريبها وإيوائها أيضا في أفغانستان، وهكذا تحولت أفغانستان إلى مسرح هائل ومثالي للحركات الإسلامية القتالية برعاية وتعاون الولايات المتحدة والدول الصديقة والمؤيدة، وحتى الصين شاركت في المهرجان "الجهادي" بفاعلية مؤثرة.
ولكن الانسحاب السوفييتي المفاجئ من المسرح الدولي أوقف المعركة والاستعدادات التي كانت تبدو طويلة في مواجهة الشيوعية العالمية والدول الدائرة في فلكها، وتحولت هذه الجماعات والمؤسسات فجأة إلى عبء يجب التخلص منه.
وبدأت الولايات المتحدة على عجل في تفكيك هذه الجماعات والمؤسسات بدءا ببنك "الاعتماد" الذي كان يمول المسرح الأفغاني، والجماعات الأفغانية الرئيسية نفسها والتي كانت رأس الحربة ضد الشيوعية والاتحاد السوفييتي مرورا بالمتطوعين العرب ومؤسساتهم ومكاتبهم.
كما بدأت القوات الباكستانية عام 1993 حملة اعتقالات واسعة وترحيل للعرب المقيمين على أراضيها، شملت في حالة العجلة والتوتر مكاتب وشخصيات لها صفة دبلوماسية ودولية، وتعمل في مجال الإغاثة والتعليم والإعلام على نحو مؤسسي وقانوني.
وتفرق الآلاف من الشباب العرب والمتطوعين في أنحاء العالم، من كان يستطيع أن يعود إلى بلده مثل الأردنيين والسعوديين واليمنيين فقد عاد واندمج معظمهم في الحياة العادية في بلدهم، وأغلبهم زودتهم التجربة بحكمة وعبرة دفعتهم إلى إعادة النظر جذريا في طريقة تفكيرهم، ولكن المشكلة كانت تتعلق بكثير ممن كان يصعب عودتهم إلى بلدهم مثل المصريين والسوريين والليببيين أو القادة والنشطاء الراغبين في استئناف "الجهاد"، فانتقل بعضهم إلى السودان والبوسنة والهرسك ودول آسيا الوسطى والشيشان، وبعضهم هاجر إلى الغرب، مثل أيمن الظواهري الذي هاجر إلى سويسرا، وعمر عبد الرحمن الذي هاجر إلى الولايات المتحدة، وانتقل البعض للإقامة والحياة في دول هامشية ومعزولة في أفريقيا.
وكان مجيء طالبان إلى الحكم في أفغانستان عام 1996 نهاية لمرحلة من التشرد واليأس والمطاردة بالنسبة لآلاف من الشباب الذين زادوا شراسة وحقدا على الأنظمة السياسية والمجتمعات والعالم بعد المعاملة القاسية التي لقوها حول العالم.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo