إحدى الملاحظات الرئيسة في الحراك السياسي العربي الحالي، وبالتحديد في كل من مصر وسورية، يتمثل ببروز القوة الشعبية المتفردة لـ"الأخوان المسلمون" على الرغم من حالة التضييق والحظر ومحاولات التهميش السلطوي. هذه "الملاحظة" تضعنا أمام تساؤل حاكم في بناء تصورات مستقبل الإصلاح العربي وهو: هل تمثل جماعة "الأخوان" مشروعا ديمقراطيا وأن صعودها يرفد قناة الإصلاح السياسي العربي أم أن قوتها تعدُّ تعبيرا عن ضعف القوى الإصلاحية، وأن مشروعهم السياسي بعيد عن قبول الديمقراطية خيارا استراتيجيا حاسما؟
في الجواب على هذا التساؤل يقدم د. عمر الشوبكي لكتاب "إسلاميون وديمقراطيون: إشكالية بناء تيار إسلامي ديمقراطي" من خلال ثلاثة منظورات مختلفة للحركة الإسلامية المعاصرة-وعصبها السياسي جماعة الإخوان-:
المنظور الأول هو "العلماني- الأصولي" الذي يقرأ الظاهرة الإسلامية من زاوية واحدة متشنجة مغلقة، ويرى أنها معادية للقيم الديمقراطية وأنها انتكاسة لأمل الأصلاح السياسي.
أما المنظور الثاني "الإسلامي- الساكن" فيقرأ الحركة الإسلامية كظاهرة "استثنائية" محسومة المصير لا تخضع للتحليل والقراءة الموضوعية التاريخية.
بينما المنظور الثالث "الاجتماعي- الثقافي" فيقرأ الظاهرة الإسلامية في سياق موضوعي- عقلاني من خلال الشروط الواقعية في انتاجها، إلاّ أنّ المنظور الأخير لا يزال ضعيفا، ولم يؤصل بعد أدوات التحليل والتفسير، إذ إنّ أغلب الكتابات العربية تخضع للمواقف المسبقة المعلبة في دراسة جماعة الإخوان.
إنَّ المنظور الثقافي- الاجتماعي هو الأقدر منهجيا على تحليل الظاهرة الإسلامية وتحديد موقعها في سياق الإصلاح العربي اليوم. واستنادا إلى هذا المنظور، يبدو أن أبرز المؤشرات أن العمود الفقري للإخوان يتآلف - في أغلب الدول العربية- من "الطبقة الوسطى المحافظة"، والمهنيين المتخصصين. تلتقط هذه الملاحظة د. الكندية "جنين كلارك" في دراسة لها عن الترابط العضوي بين الطبقة الوسطى وجماعة الأخوان في كل مصر والأردن. ومن المعروف أن الطبقة الوسطى لا تميل إلى الثورات أو الانقلابات، وإذا أبدت تعبيراتها السياسية حماسا للتغيير فسيكون من خلال الطريق المتدرج السلمي. كما أنّ الطبقة الوسطى هي مناط التوازن الاجتماعي. لكن هل سمة "المحافظة" عند الإخوان أو الطبقة الوسطى في العالم العربي تعني موقفا سلبيا من التغيير الديمقراطي والميل إلى المحافظة على الموجود؟ أم أن هناك صيغة أخرى للتعايش بين مشروع الأخوان المحافظ وبين القيم الديمقراطية الحديثة؟
الجواب على التساؤل السابق، يمكن قراءته من خلال التيار العام في السياسة والفكر الغربي اليوم؛ ففي الولايات المتحدة يعبر المحافظون عن التيار الفكري- السياسي الأميركي الذي يؤكد على أهمية حضور الدين في الحياة الثقافية والاجتماعية، وأن يبقى للمعايير الأخلاقية دور واضح في صوغ المقبول والمرفوض في المجال العام. وهو ما يمكن أن نلمسه أيضا بشكل كبير في كتاب "الدين والثقافة الأميركية" لجورج مارسدن، الذي يتتبع دور الدين في تكريس الوحدة وقيم المسؤولية المدنية- الأخلاقية. ومن المعروف أن أحد أبرز الأسباب التي وقفت وراء انتصار بوش في الانتخابات الأميركية، على الرغم من حالة الاستقطاب الشديد في الطبقة السياسية الأميركية، هو استعمال الشعارات الدينية والأخلاقية.
في المقابل، تعبر الأحزاب "المسيحية الديمقراطية" الأوروبية عن حالة مشابهة لتجربة "الإخوان" السياسية، من خلال قبول تلك الأحزاب بالنسق السياسي الديمقراطي- التعددي، مع التأكيد على أهمية القيم الدينية والأخلاقية. وكذلك التجربة التي وضعها حزب العدالة والتنمية التركي، إذ يصرِّح أردوغان -بوضوح- أن حزب العدالة والتنمية هو حزب سياسي على غرار "الأحزاب المحافظة" الأوروبية.
إذن، هناك إمكانية كبيرة للتعايش بين القيم الديمقراطية والدين(الإسلام) من خلال صيغة واضحة مؤطرة. وهو ما يمكن أن ينطبق على "جماعة الإخوان" وحركات الإسلام السياسي المعتدلة في حال حسمت هذه الحركات موقفها بوضوح من القيم الديمقراطية والتعددية. وهذا الحسم يأتي بخطويتن متوازيتين؛ تتمثل الأولى بصوغ خطاب الإخوان السياسي والفكري، من خلال لغة واضحة وتأصيل لقيم الديمقراطية والتعددية وحق المعارضة السياسية، ليس في إطار آني بل في إطار نهائي محسوم، سواء كان "الأخوان" في السلطة أم خارجها. والثانية من خلال إعادة النظر ومراجعة أدوات وادبيات التنشئة داخل حلقات التعليم والتربية الأخوانية، بحيث يتم ترسيخ المفاهيم الديمقراطية في وعي أفراد الجماعة، والتخلي تماما عن فكر العزلة والمفاصلة ورفض الآخر. بمعنى: تغليب قيم المشاركة والتنمية على قيم الصراع والمواجهة مع النظم السياسية.
في هذا السياق، وجدت – تقليديا- مدرستان في الفكر والممارسة السياسية الإخوانية؛ مدرسة الانفتاح والمشاركة السياسية، والقبول بالديمقراطية والتعددية، والتوافق بين الشريعة ودولة القانون، والإصلاح الجزئي التدريجي، وهي المدرسة المتوافقة مع فكر الإصلاحيين الجدد كمحمد سليم العوا وأحمد كمال أبو المجد والقرضاوي وطارق البشري وهويدي وغيرهم.
أما المدرسة الثانية فهي مدرسة الحاكمية والدولة الإسلامية (الشريعة) وهي التي تنقسم بدورها إلى اتجاهين؛ الأول يقبل بالديمقراطية كأداة للوصول إلى السلطة، أو في إطار محدد، ويبقى مصرا متمسكا بخيار إقامة دولة إسلامية سنية على غرار النموذج الشيعي الإيراني. أما الاتجاه الثاني فيرفض القبول بالديمقراطية ويصر على "التمايز" بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي، ويؤكد على ضرورة إقامة النسق الإسلامي الذي يحصر المعارضة والتعددية في حدود الشريعة الإسلامية، ويرى أن على الإسلاميين التمسك في السلطة، وعدم القبول - لاحقا- بأي انتخابات تأتي بأحزاب علمانية إلى الحكم.
إلى الآن لم تنتصر أي من المدرستين السابقتين. وما زال صراع السيادة على الفكر الإخواني قائما بين المدرستين. إلا أن الشهور الأخيرة حملت العديد من المؤشرات على توجه المسار العام الإخواني نحو القبول بقيم الديمقراطية، وإعادة النظر في مفهوم"الدولة الإسلامية" باتجاه أكثر عصرانية ومرونة، وهو ما يتضح في مشاريع الإصلاح التي قدمتها الجماعة في كل من: مصر وسورية والأردن التي تؤكد على القبول بالقيم الديمقراطية.
كما أن الموقف الإخواني المتصاعد ضد عمليات العنف وقتل المدنيين في العالم العربي، يمثل مؤشرا آخر على اتجاه الجماعة في الفترة الأخيرة. ولعل تصريحات جميل أبو بكر - نائب أمين جبهة العمل الإسلامي الأردنية- مثال بارز في هذا السياق، إذ أكد أبو بكر رفض الحركة الإسلامية لعمليات استهداف المدنيين في الأردن والعراق وفلسطين، وهو ما يمثل دليلا آخر على مضي الإخوان قدما في رفض التغيير الراديكالي والقبول بالإصلاح السلمي- الديمقراطي.
التخوف الآخر من جماعة الإخوان تبديه أحزاب المعارضة وطيف من القوى السياسية الديمقراطية- العربية من احتمال عقد الإخوان "صفقة" مع النظم الحاكمة على حساب مطالب الإصلاح. وقد بدأ عدد من المثقفين والكتاب المصريين يدندن حول هذه المخاوف بعد النتائج الملفتة للإخوان إلى الآن في الانتخابات البرلمانية 2005. ولتجاوز ذلك، ولمزيد من الضمانات فإن على الإخوان إصدار بيان واضح وصريح على أن الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي المدني هو من أولوياتهم، ولن يتنازلوا عنه، وأنهم يحترمون اللعبة الديمقراطية والحريات العامة، والحقوق الفردية، ويرفضون الدولة الدينية الشمولية، وأن هدفهم السياسي المتمثل بـ "الدولة الإسلامية" لا يخرج عن الصيغة الديمقراطية المدنية المتداولة اليوم.
إن مثل هذا البيان، سيعد"نقلة نوعية"، وسيكفل انحياز تيار عريض من الطبقة الوسطى العربية باتجاه مطالب الإصلاح السياسي- الديمقراطي. وهو ما يعني أن الإخوان سيمثلون مستقبلا قوة اجتماعية- سياسية مساندة للإصلاح المطلوب.
m.aburumman@alghad.jo