كانت الولايات المتحدة قبل أحداث الحادي عشر من أيلول تبدو متجهة إلى مرحلة من العزلة والانكفاء على الذات. وبدأت برامج التسليح تلقى معارضة كبيرة في الكونغرس والرأي العام، فقد تكونت فكرة أنه لم تعد بعد الحرب الباردة ضرورة لهذه الترسانة العسكرية الهائلة التي تستنزف الموارد بلا فائدة أو هدف حقيقي. وبرغم أن الإدارة المحافظة والمتحمسة لبرامج التوسع في القوة العسكرية والمواجهة الخارجية استعادت الإجماع الشعبي وجزءا كبيرا من التأييد العالمي فقد بددته سريعا، وتبدو الولايات المتحدة اليوم تواجه مرحلة من الهزيمة والإعياء.
ما بين حربي الخليج عام 1991 وعام 2003 كان المشهد العالمي يبدو قد تغير تغيرا واسعا، ففي الأولى كانت الولايات المتحدة تحظى بإجماع وقبول لا مثيل له في تاريخها، وكان ينظر إلى بوش الأب بأنه أصلح كل ما أفسدته الإدارات الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. لكن في عام 2003 كان بوش الإبن يبدو وقد أفسد كل ما أنجزته الولايات المتحدة في تاريخها، ويبدو أن الولايات المتحدة، برغم قوتها الاقتصادية والعسكرية الهائلة، لا تصلح أن تكون دولة قيادية في العالم، ولا حتى أن تكون دولة محتلة، فكل تجاربها الاحتلالية في الفلبين وفيتنام وأميركا اللاتينية والصومال ثم أفغانستان والعراق كانت تجر إلى الفوضى والهزيمة والكراهية، ويقابل ذلك استعمار أوروبي ناجح، فمازال الحضور البريطاني والفرنسي - على سبيل المثال- قائما في جميع أو أغلب الدول التي استعمرتها من قبل. لكن الولايات المتحدة دفعت ضد فلسفتها التي قامت عليها لتكون دولة قيادية في العالم بعد الإرهاق وشبه الانهيار الذي آلت إليه أوروبا في الحرب العالمية الثانية.
وكما كانت هزيمة ألمانيا وحلفائها في الحرب العالمية الثانية خسارة أيضا لبريطانيا وفرنسا، فقد كانت هزيمة الاتحاد السوفيتي خسارة كبرى للولايات المتحدة أيضا، فهي تبدو وكأنها تندفع بعيدا عن الزمان والمكان، كأنها في مشهد واقعي للأساطير التي يقاتل فيها العملاق الهائل الأقزام الصغار الضعاف، ولكن هزيمة العملاق في قوته، وقوة الأقزام في ضعفها وضآلتها، فالحرب الهائلة على الإرهاب اليوم مثل إطلاق صواريخ كروز لقتل واصطياد الذباب والبعوض.
مصر والسعودية تبدوان اليوم أكثر قدرة على حل الأزمة في العراق. ويبدو أن مؤتمر القاهرة تمخض عن مصالحة تشبه اتفاق الطائف التاريخي، والولايات المتحدة دخلت في حوار مع المقاومة العراقية، ومع إيران، بل وطلبت مساعدتها في العراق، وهاهي تعلن عن انسحابها من العراق.
لم تعد القوات المسلحة الأميركية قادرة على التجنيد والمحافظة على جنودها، وتواجه أزمة كبيرة في انهيار معنويات أفرادها، ودخلت في أزمة أخلاقية كبرى، فقد ظهرت أمام مواطنيها والعالم في حالة من الانحطاط والهمجية تخجل منها جميع الدكتاتوريات والدول المحتلة، وتتواصل خسائرها في الوقت الذي تخوض فيه حربا هائلة مع النساء والأطفال والمدنيين العزل. وبالنسبة للجنود الأميركيين فإنهم يخوضون حربا مع المجهول، ولا يعرفون من يقتلون ولا من يقتلهم، ويلزمهم لأجل الانتصار أن يبيدوا الشعب العراقي، فالانتصارات الأميركية التاريخية قائمة على الإبادة الشاملة.
سيكون عام 2006 عام الخروج الأميركي من العراق والمنطقة وربما من العالم، فالعداوة التي لقيها بوش من جيرانه الأميركيين تدل على إجماع عالمي على ضرورة إنقاذ العالم من الولايات المتحدة بل وإنقاذها من نفسها. فالعالم مقدم على مرحلة من التعاون والتنافس على أسس وقواعد جديدة تصوغ السياسة والاقتصاد والثقافة في وجهة جديدة مختلفة عن الصراع العسكري لا أهمية فيها للقوة العسكرية الجبارة.
العالم يواجه تحديات جديدة تفرض عليه طريقة جديدة لمواجهة التلوث البيئي وإنفلونزا الطيور والإيدز وتغير المناخ وتحديات المياه والطاقة والفقر والهجرة والتطرف، وكلها قضايا تقتضي بالضرورة إدارة عالمية مختلفة قد لا يكون للولايات المتحدة مكان فيها.
Ibrahim.gharaibeh@alghad.jo