تمثل اللحظة السياسية الراهنة في النظام العربي نقطة تحول تاريخية تحمل في ثناياها عملية تبدل وتغير في طبيعة النظام وأسسه وشرعيته ومشروعيته الواقعية، أي قدرته على البقاء والاستمرار في ظل حالة العجز والضعف التي تزداد مظاهرها يوما بعد يوم. فعلى سبيل المثال – لا الحصر- يرى رضوان السيد في رسالته "مقالة في الإصلاح العربي" أن النظام العربي الحالي اكتسب روافع مشروعيته وسماته العامة من فترة "الحرب الباردة". وبما أن هذه الحرب قد انتهت فإن هذا النظام يسير في طريق الزوال والأفول.
وعلى الرغم من توافق كثير من المفكرين العرب على التوصيف السابق. إلا أن حالةً من الضبابية والاختلاف في تقدير المرحلة القادمة وتعريفها، وتحديد معالم الطريق المؤدي إلى الإصلاح السياسي المطلوب. فهناك مقاربة فكرية ترى أن التحول الديمقراطي يرتبط بانتشار الثقافة (المدنية- الديمقراطية) في أوساط المجتمع، بينما يرى خبراء أن العامل الثقافي هو عامل مفسر لاستقرار الحالة الديمقراطية ورسوخها وليس لنشوء عملية التحول.
ويربط كثير من المثقفين والخبراء بين النمو الاقتصادي وبين التحول الديمقراطي، إذ يقيسون درجة التطور السياسي بمستوى الدخل الفردي من خلال علاقة طردية بين المتغيرين. إلاّ أن المسافة الفاصلة بين النمو الاقتصادي وبين الوصول إلى التغيير الديمقراطي غير واضحة لكثير من الخبراء، إذ لا توجد إجابات محددة واضحة عن هذا السؤال.
في الحقيقة ما يفتقده العالم العربي هو وجود رؤية نظرية عميقة تسبر أغوار المرحلة وشروطها ومقوماتها وتقدم تفسيرا وتعريفا واضحا لها، يسمح بإدراك الأرضية التي نقف عليها والآفاق الممكنة والمحتملة. هذه المقاربة النظرية ما زالت ضعيفة، ما يجعل الواقع الحالي في مرحلة أقرب إلى الضبابية. لكن يمكن في هذا المجال الإفادة من مراحل التحول الديمقراطي في كثير من دول العالم الأخرى التي تمكنت من العبور، والوصول إلى مرحلة النظم الديمقراطية المستقرة، خاصة ما يطلق عليها صموئيل هانتنجتون "الموجة الديمقراطية الثالثة".
بالضرورة لن تمر النظم العربية بالمراحل ذاتها التي مرت بها الدول الأخرى. لكن بلا شك فإن هذه بمثابة "قراءة إرشادية" للمرحلة الراهنة. في هذا السياق يقدم كتاب "ديناميات السيرورة الديمقراطية والمجتمع المدني" لـ "غرايم جيل" (ترجمة شوكت يوسف، وزارة الثقافة السورية 2005) دراسة معمقة لمراحل التحول الديمقراطي من خلال استقراء وتحليل عشرات حالات الدول التي شهدت تحولا ديمقراطيا في الفترة الأخيرة، خاصة في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية.
يقوم هذا الكتاب على مقاربة تبدو أكثر واقعية، من خلال تقسيم عملية التحول الديمقراطي إلى ثلاث مراحل رئيسة: الأولى مرحلة اعتلال النظام، الثانية التحول الديمقراطي، والثالثة استقرار الديمقراطية. وإذا ما قسنا هذه المراحل على الحالة العربية اليوم نجد أن أعراض "اعتلال النظام" تنطبق تماما عليها. وهي ما سنناقشه في هذا المقال، بينما سنناقش في المقال التالي عملية التحول الديمقراطي وديناميكياتها.
يعرّف "اعتلال النظام" بأنه تفكك النظام الرسمي وانحلاله واستبدال بنىً جديدة بالبنى والأساليب القديمة. لكن ليس بالضرورة أن ينشأ عن عملية الاعتلال استبدال النظام الحالي بآخر ديمقراطي، فهناك العديد من التجارب التاريخية التي قام فيها نظام سلطوي محل النظام السلطوي السابق.
وعلى الجهة المقابلة للمقاربة التي تربط الديمقراطية بدرجة النمو الاقتصادي، فإن اعتلال النظام ينشأ غالبا عن "أزمة اقتصادية" تؤدي إلى العديد من المشكلات الاقتصادية التي يشعر بها المواطنون، كتزايد معدلات الفقر والبطالة والتضخم وضعف القدرة الشرائية لدى الناس، مما يطرح تساؤلات كبيرة حول السياسة الاقتصادية للنظام. وفي حال كان النظام متماسكا قويا فسيكون قادرا على احتواء الأزمة من خلال إجراءات اقتصادية ليبرالية، لكن إذا كان النظام ضعيفا قد تؤدي الأزمة الاقتصادية إلى زلزلة جذوره وبنيانه السياسي ذاته.
المشكلة لا ترتبط بالأزمة الاقتصادية ذاتها. لكن بتداعياتها الاجتماعية والسياسية، خاصة في ظل النظم السلطوية التي تعتمد في مشروعيتها على استرضاء فئات كبيرة من المجتمع من خلال سياسة اقتصادية رعوية. وفي حالة الأزمة الاقتصادية وتفاقمها يحدث تعبئة مضادة للنظام، الذي يبدأ بخسارة قاعدته الاجتماعية شيئا فشيئا وتتحول فئات كبيرة لممارسة الضغوط على النظام. في هذه الحالة قد تتفاقم أزمة النظام إذا ما بدأت النخبة الحاكمة تشعر بالقلق وعدم الثقة بالنفس، وهو ما يحصل إذا كانت النخبة الحاكمة جديدة لم تختبر في محكات السياسة بعد. ما يؤدي - في المحصلة- إلى تضافر الأزمتين (السياسية والاقتصادية) على قدرة النظام في احتواء المشكلات.
ومن علامات عجز النظام حالة التفكك والاستقطاب التي تظهر داخل القوى المتحكمة والرئيسة فيه. فغالبا ما تنقسم هذه القوى إلى جناحين؛ الأول "المحافظ" يرى أن النظام لا يزال قادرا،من خلال سماته الحالية، على الاستمرار والبقاء. بينما الثاني "الإصلاحي" يرى أن النظام، حتى يحافظ على وجوده ويتلافى احتمالات الانهيار، لا بد أن يجدد ذاته ويعيد النظر في كثير من مقوماته بحيث يحافظ على الهيكل العام، لكن يغير كثيرا من التفاصيل. ومن الممكن جدا –كما سيأتي في المقال التالي- أن تحدث "صفقة سياسية" بين الإصلاحيين في داخل النظام وبين "المعارضة المعتدلة".
ومن العوامل المؤدية – أيضا- إلى اعتلال النظام ونمو أزماته العامل الدولي، الذي يتمثل بضغوط سياسية واقتصادية، إذا استبعدنا انهيار النظام من خلال الغزو العسكري. فهذه الضغوط تساهم بدرجات متفاوتة في تأزم النظام. وهناك ضغوط النظام الاقتصادي الدولي التي تلقي أعباء كبيرة على مدى قدرة النخب الحاكمة على رسم استراتيجية اقتصادية داخلية تتجنب الانعكاسات السلبية للنظام الاقتصادي العالمي. ويضيف عدد من الباحثين دور النظام الدولي في خلق مناخ عالمي محفز للديمقراطية، خاصة بعد فشل الأيدلوجيا الشيوعية، وظهور اتجاه عالمي نحو الديمقراطية والليبرالية.
إذا أسقطنا المؤشرات السابقة في "اعتلال النظام" على واقع النظام الرسمي العربي، نجد أنها تتجلي بدرجات متفاوتة في أغلب الدول العربية. لكن السؤال هو إلى أي مدى يمكن أن يحتفظ النظام العربي بقدرته على البقاء؟ بالتأكيد لا يرتبط الأمر بالشرعية السياسية، فالنظم السلطوية تعتمد على الأمن بالدرجة الأولى وعلى خوف الناس من التغيير. لكن هناك عامل مدى قوة النظام ذاته ودرجة تماسكه والمدى الذي وصلت إليه الصراعات داخل النخب الحاكمة، فكلها عوامل مؤثرة في عملية الانتقال. إلاّ أنّ "بريزورسكي" يشير إلى عامل مؤثر، له أهميته الخاصة في الحالة العربية، وهو مدى وجود أو غياب البديل المقنع للناس. فكثير من الأوقات يكون مصدر قوة النظام خوف الناس من حالة الفوضى والاحتمالات القادمة، ولعل هذا أحد الأسرار الرئيسة في عدم انهيار النظام العربي إلى الآن.
m.aburumman@alghad.jo