تعود الجذور الفكرية للتشدد والتطرف الديني السائد اليوم إلى ابن تيمية والمودودي؛ فمن ابن تيمية استمدت الجماعات السلفية مقولات وأفكار تكفير ومقاتلة فئات من المسلمين، أو تكفيرهم ولو اعتقدوا أنهم مسلمون. وبتأثير المودودي، صاغ سيد قطب فكر الحاكمية والجاهلية التي تعتبر الأنظمة السياسية الحاكمة والمجتمعات القائمة غير مسلمة. وامتدت هذه الأفكار إلى كثير من الإخوان المسلمين، والذين خرج معظمهم ليشكلوا جماعات أو يشاركوا في جماعات التكفير والتشدد الديني، وإن بقي بعضهم -وبخاصة في الأردن- يفكرون على نحو تكفيري وتجهيلي، ويسلكون في المجتمع والعمل طريقا معتدلة مخالفة لهذه الأفكار.
وقد نشأت لدى المودودي مقولات"الولاء والبراء"، وأفكار تميز المسلمين ومقاطعة مؤسسات الحكم والقضاء، والمجتمع الإسلامي والمجتمع الكافر وغير ذلك، من خلال البيئة التي كان يعيش فيها المسلمون في الهند قبل قيام دولة باكستان؛ إذ كان المسلمون يشكلون مجموعة كبيرة لكن ليست غالبة في محيط غير إسلامي، يمثل فيه الهندوس أغلبية السكان، ويشاركهم أيضا سيخ ومسيحيون وبوذيون.
وبالنسبة لابن تيمية، فقد كانت دولة المماليك تخوض حربا مع الغول الذين أسلموا، لكنهم ظلوا يحاربون الدول الإسلامية القائمة إلى الغرب منهم: العثمانيون والمماليك.
وقد أنشأت هذه الحالة -العداوة مع الدول العريقة والتاريخية للمسلمين التي تمثل نواتهم واتجاهاتهم الغالبة، والسلوك المخالف للإسلام والمتناقض معه برغم الاعتقاد بالإسلام، وانتهاك حرمات المسلمين وقتلهم بلا رحمة- رؤى فقهية وفكرية ترى هذه المجتمعات والدول كافرة تجب محاربتها.
هذه الظروف التاريخية والاجتماعية أنشأت فقها اقتبسته الحركات الإسلامية، وحاولت تطبيقه في بيئات اجتماعية وتاريخية مختلفة، وإن كان ثمة شبه أيضا يسمح بهذا الاقتباس لفكر ابن تيمية والمودودي.
وهكذا، فإن التطرف هو استخدام خاطئ لمقولات صحيحة في سياقها الزماني والمكاني، وهذا موضع الإشكال واللبس في فهم التطرف وتحليله؛ فلا يمكن عزل منشأ التطرف والاعتدال عن البيئة المحيطة بالحركات والمجتمعات الإسلامية. وقد أشرت في مقالة أول من أمس إلى دور الحركة الإسلامية في مصر في مواجهة التطرف، ودور النظام السياسي في المقابل في تشجيعه، والعكس في الأردن؛ فقد ساهمت سياسات الدولة الأردنية في إنشاء حالة من الاعتدال ومحاربة التطرف والتشدد الديني.
إذن، لا يمكن حصر أسباب الثقافة التكفيرية والمتشددة بنصوص مجردة، أو فهم خاطئ للنصوص، ولكن الحالة تشبه التفاعل الكيميائي المعقد بين العناصر المختلفة والعوامل المحيطة أيضا بهذا التفاعل. ومن ثم، فإننا أمام نتائج مختلفة تماما عن العناصر المكونة، ومتعددة أيضا في طبيعتها حسب الظروف التي نشأ فيها هذا التفاعل.
والخبرة والممارسة الواقعية تثبت أن التطرف يمكن مواجهته في منظومة من السياسات والأفكار، ولكنها يجب أن تكون على قدر من العمق يتفق مع التعقيد والتراكم الذي أنشأ التطرف.
هناك استثمارات ومصالح قائمة على التطرف. وكانت مغامرة خطرة، وتلاعبا بالعواطف والمشاعر، واستغلالا بشعا للظروف القائمة من أجل مصالح ومكاسب صغيرة، كما حدث في أفغانستان، وفي سياسات وخطط مواجهة الشيوعية والمد اليساري والثورة الإيرانية، وربما لا يعرف أحد إلى أين ستمضي هذه التداعيات!
فالشيعة تحولت إلى كيان سياسي طور كثيرا من العقائد والأفكار والسياسات بفعل المواجهة بين الدولة الصفوية في إيران والدولة العثمانية، وفي المواجهة بين المماليك والعثمانيين وبين المغول.
والبروتستانتية، وإن بدأت أزمة في المسيحية الكاثوليكية، فقد وجدت الدولة العثمانية والمغاربية في دعمها وتأييدها في ذلك الوقت فرصة في تعزيز المواجهة السياسية والعسكرية مع الغرب، ولكن البروتستانتية تحولت مع الزمن إلى خصم للمسلمين أشد قسوة من الكاثوليك، ومناصر للصهيونية أكثر من اليهود أنفسهم.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo