مئات، ولربما آلاف الدراسات الأميركية تحديدا تلك التي تتحدث عن الإصلاح والديمقراطية خصوصا في الوطن العربي؛ وأقل منها طبعا - إنما بعمق وتفصيل مثيرين- مبادرات المشاريع الإصلاحية "الأميركية" في الوطن العربي، والتي ربما كان الأخير بينها دون أن يكون آخرها تقرير فريق العمل المستقل برئاسة مادلين أولبرايت وفين ويبر، والصادر عن مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك في حزيران الماضي تحت عنوان "دعما للديمقراطية العربية: لماذا وكيف؟". وبين تلك الدراسات وهذه المبادرات هناك المؤتمرات والملتقيات وورش العمل التي تنظم لنا وفي عقر دارنا غالبا بتمويل أميركي -كجزء من تمويل غربي اشمل- لمناقشة مستقبل الإصلاح في الوطن العربي.
وإضافة إلى الضغوط الديبلوماسية منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، تبدو المؤشرات السابقة بمثابة الوجه "الناعم" للحضور الأميركي في مسيرة الإصلاح العربية، في مقابل الوجه العسكري المتذرع بالحرية والديمقراطية والإطاحة بالديكتاتورية كما تجسد في غزو العراق تحت مسمى تحريره! أما النتيجة، التي يفترض أن تكون متوقعة بشكل حتمي بالنظر إلى حقيقة أنها القوة الأعظم ذات المصالح الحيوية في منطقتنا، فهي أن الولايات المتحدة (والغرب عموما) حاضرة في الإصلاح العربي، وهي لا تنتظر أية إجابة عن سؤالنا الكبير: إصلاح من الداخل أم من الخارج؟
أما نحن أصحاب القضية، فنبدو منقسمين بين تيارين؛ الأول يعتقد فعلا أن لا تغيير إلا ذلك الذي تجلبه أميركا أو يكون بالتماهي مع أجندتها، فيما يعتقد التيار الآخر -والذي يبدو غالبا على الصعيد الإعلامي على الاقل- أن اي تعامل أو تعاطي مع الولايات المتحدة والغرب لتحقيق الإصلاح، سيعني حكما انتفاء الإصلاح الحقيقي والانتقال إلى خانة العمالة للإمبريالية الأميركية. وبعبارة أخرى، وفيما يكاد التيار الأول يتوقف عند الداخل باعتباره ضحية يفتقد إلى قوى فاعلة قادرة على التغيير الإصلاحي، يبدو تعاطي التيار الثاني أقرب إلى نموذج روبنسون كروزو، إذا جاز التعبير، من خلال تجاهل البيئة الإقليمية والدولية كعوامل مؤثرة في الإصلاح في الوطن العربي، والأخطر النظر إلى هذه البيئة باعتبارها بيئة معادية تماما معيقة للإصلاح، تقف كتفا إلى كتف مع الأنظمة الاستبدادية!
كلا التيارين مصيب وكلاهما مخطئ! فالعلاقة مع الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، في وضع معالم طريق الإصلاح في الوطن العربي، لا يجب ولا يمكن أن تُرى من منظار "الابيض والأسود"، أو "معنا وضدنا". فحتى لو تجاهلنا أو شككنا في أن الولايات المتحدة -ومن منطلق مصالحها القومية الخالصة بالتأكيد- كانت القوة الدافعة الرئيسة وراء إفساح مجال حقيقي لأول مرة للحديث عن الإصلاح في الوطن العربي، والضغط للسماح ببعض مؤشراته، حتى لو تجاهلنا أو شككنا بذلك، فلا يمكن لنا وفق أية نظرة عقلانية موضوعية إنكار أن الولايات المتحدة ذاتها قادرة على إعاقة الإصلاح في عالمنا العربي وتدميره باسم الإصلاح ذاته، طالما رأت أن الأمور تجري باتجاه مهدد لمصالحها. ومن ثم، وبعيدا عن شعارات "الداخل" في مواجهة "الخارج"، تبدو القضية المحورية، بل وإحدى الأولويات الملحة في بناء وتحقيق متطلبات إصلاح حقيقي في وطننا العربي، متمثلة في القدرة على استثمار الحضور الأميركي -الذي لا مفر منه- بالاتجاه الذي يخدم هذا الإصلاح!
حجر الزاوية في أي استثمار يخدم مصالحنا يكون في جَسر فجوة المعرفة والإدراك التي تفصل بيننا وبين الأميركيين، والتي شكلت بحق المرتع الخصب الذي نمت وتنمو فيه كل الأساطير المرهبة من تغيير قادم في الوطن العربي سيكون بداية كارثة محققة تحل بالمصالح الأميركية في المنطقة. وإذا كان معنى ذلك أن جزءا ليس بالهين إطلاقا من خطابنا الوطني الإصلاحي لا بد وان يكون موجها إلى الخارج، ولا سيما إلى الولايات المتحدة، فإن الحقيقة التي لا بد وأن نواجهها هنا أيضا -بعيدا عن كل الشعارات المربحة شعبيا إنما من منظور تجاري وليس وطني أبدا- هي أن هكذا خطاب لا بد وأن يكون موجها إلى النخب الحاكمة وصانعة القرار في أميركا والغرب قبل الشعوب، ودعونا ننتهي من ثنائية الوطنية والعمالة أو الخيانة كمرادفين للتقوقع على أنفسنا أو الارتماء في أحضان الآخر، فالسياسة كعلم وممارسة لا تقبل هكذا تجارة أو خوف ينبئ عن عجز.
manar.rashwani@alghad.jo