تتجه الحركات السياسية المتنامية أو التي تعمل في قضية حيوية واستراتيجية في الدول العربية مثل الإخوان المسلمين والمقاومة العراقية وحماس والمعارضة السورية إلى حوار مع الولايات المتحدة باعتبار هذه الخطوة هي المفتاح الأساس للعمل والمشاركة المستقبلية الممكنة في الحياة السياسية والعامة.
وإذا نجح العراقيون (نسبيا) في تأسيس حياة سياسية ديمقراطية وإقامة سيادة وطنية وإعادة الأمن فإن العلاقات الأميركية العربية ستكرس فلسفة وأسسا جديدة مختلفة عما استقرت عليه طوال نصف القرن الماضي، لأن العراق سيكون المسرح الأول للحكام الجدد في الوطن العربي، وسيكون نموذجا يمكن تعميمه على العرب.
فالعراق سيحكمه على الأغلب اتئلاف إسلامي ليبرالي بتوليفة طائفية وإثنية، والجديد في هذا النظام السياسي الجديد أنه يتيح المجال للحركة الإسلامية لمشاركة واسعة ورئيسة بعد عقود من الإقصاء والتهميش، ويؤسس لعلاقة جديدة مع الولايات المتحدة قائمة على التعاون الاستراتيجي المستند إلى ديمقراطية ومشاركة شعبية، ويحول الخلاف مع الولايات المتحدة والغرب من حضاري وأيدولوجي إلى خلاف على السياسات والمصالح تكون فيه المكاسب والخسائر قائمة على النقاط المتراكمة أكثر مما هي هيمنة وتبعية مطلقة وحاسمة.
ستواصل الولايات المتحدة سياساتها السابقة تجاه إسرائيل والنفط والقضايا الدولية والإقليمية دون مواصلة المغامرة السابقة القائمة على دعم أنظمة سياسية معزولة وفاسدة ولا تحظى بالتأييد الشعبي، وستجد المجتمعات العربية أنها كسبت نسبيا.
المشكلة في هذه الاستراتيجية أنها تحتاج إلى 40 سنة على الأقل لتقيم ولاكتشاف ضررها ومنفعتها، وللتأكد من تحول أو عدم تحول الأنظمة السياسية الجديدة والبديلة إلى دكتاتوريات فاسدة ومتفسخة، ولكنها في جميع الأحوال بالنسبة للولايات المتحدة والجماعات والحركات السياسية الصاعدة مغامرة أقل خطرا وقرفا من استمرار الوضع الحالي الذي لم يعد مقبولا ولا تطيقه الشعوب ولن تقبل الاستمرار به، وهو ما بدا واضحا وجليا في الانتخابات النيابية المصرية. ويقال دائما: إن ما يحدث في مصر اليوم سيحدث غدا في الدول العربية.
بالطبع فإن الرؤية السابقة ليست حتى في نظر كاتبها صوابا ولا خطأ أيضا، فربما يختلط الصواب والخطأ، والواقع أن الحيرة والتداخل والنسبية هي السمة الأساسية اليوم للتفكير والسياسات الجديدة المتبعة والخاضعة للدراسة والتحليل سواء على مستويات الإدارة العالمية والاقتصادية والمحلية والتفكير الفردي المستقل، فالمشهد المتشكل يبدو منقطعا عن السابق على نحو يصعب التفكير به والتخطيط له بالمدخلات والأدوات التقليدية.
فقبل أقل من ثلاث سنوات كان الحسم والوضوح الأميركي تجاه العراق والمنطقة يبدو بحيوية وقوة، وتبدو أوروبا المتأنية عجوزا بطيئة غير قادرة على المبادرة، ولكن الموقف نفسه يبدو اليوم إعياء وورطة، بل وحماقة وخرفا، وكأن سنوات ثلاثين انقضت وليس ثلاث سنوات فقط.
الانسحاب الأميركي من العراق سيكون على الأغلب بداية لمرحلة عالمية جديدة، لا يستغني فيها العالم عن الولايات المتحدة، ولكنه سيكون متضررا ومستاء منها. وهو قلق يفترض ألا يطول وأن يؤدي إلى حالة توازن جديدة يكون بالإضافة للدول والأقاليم الكبرى والقوية في العالم للشعوب والدول والمجتمعات دور في صياغتها والمشاركة فيها، فالعالم يمضي إلى الشبكية، ويتخلى عن الهرمية.
والطوفان الإعلامي الذي يغرقنا به القادة العرب والمؤسسات التابعة لهم يبدو لعبا بالوقت الضائع، ومماطلة في مواجهة حقيقية مع التحولات، ولكنه يؤشر بوضوح على إدراك الأزمة واللبس والارتباك والقلق تجاه الإصلاح والمستقبل، والجدل الذي يسوقنا إليه السياسيون والإعلاميون حول الإصلاح القادم من الخارج أو النابع من الداخل يبدو تضليلا متعمدا لا علاقة له بالتفاعلات الحقيقية إلا بمقدار العلاقة بين الجهات الأربع والفصول الأربعة.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo