يقدم "باري روبن" المفكر الصهيوني المعروف - في دراسته القصيرة "ما الخطأ: النقد الليبرالي للمجتمع العربي" (مجلة ميريا 2005)- رؤية نخبة من الليبراليين العرب لأزمة المجتمع العربي والأسباب التي تحول بينه وبين المضي قدما في طريق المستقبل. ويرصد روبن – في هذا السياق- حشدا كبيرا من النصوص الفكرية والسياسية التي تحمل نقدا ليبراليا للمجتمع وثقافته (وهي ثقافة متخلفة خرافية غير عقلانية تغيب عنها التعددية والتسامح في رؤية الليبراليين)، ولعل هذا النقد الليبرالي، الذي يصل – في كثير من الأحيان- إلى "جلد الذات" والشكوى المريرة يمثل أبرز الأسباب المفسرة لضعف التيار الليبرالي العربي. إذ أن هناك فجوة تفصل هذا التيار عن المجتمعات، وإعراض كثير من الناس عنه. وهو ما تكشفه الانتخابات التي تجري في كثير من الدول العربية، والتي لا يكاد التيار الليبرالي يحقق فيها شيئا، بينما يأخذ الإسلاميون "الجمل بما حمل".
في المقابل، فإن ضعف التيار الليبرالي العربي يمثل "معضلة" حقيقية للسياسة الخارجية الأميركية تجاه العالم العربي إذ يجد القادة الأميركيون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر: إما نظم فاسدة عاجزة لم تعد قادرة على حفظ المصالح الأميركية في المنطقة، فضلا عن تصدير أزماتها إلى الخارج. وإما حركات إسلامية يرى عدد كبير من القادة و"مراكز الخبرة" الأميركية فيها خطرا وتهديدا لمصالحهم وأمنهم القومي. وهذه المعضلة هي التي دفعت عددا كبيرا من المنظرين والمفكرين الأميركيين إلى المطالبة باتباع نظرية الإصلاح السياسي التدريجي بعيد الأمد، ريثما يتمكن التيار الليبرالي العربي من النمو واكتساب قواعده الاجتماعية ومن ثم يمثل قوة سياسية تمثل بديلا للنظم العربية الحالية.ويتوزع التيار الليبرالي العربي اليوم بين اتجاهين رئيسين؛ الأول هو نخبة من المثقفين والكتاب وقوى المجتمع المدني الوطنية التي تحمل رؤية (ديمقراطية مدنية ليبرالية) وتسعى إلى عملية إصلاح حقيقية على الصعيد السياسي والثقافي- الاجتماعي، وتدخل في سبيل ذلك في صدام مع النظم والحكومات العربية، وتدفع ضريبة هذا الموقف، ولا تجد مساندة حقيقية من الحكومة الأميركية إلا من بعض مؤسسات المجتمع المدني الغربية، والمثال البارز على هذا الاتجاه حركة كفاية المصرية، وعدد من المثقفين والكتاب الليبراليين الوطنيين العرب، لكن قوة هذه الحركات ونفوذها الشعبي ما زال محدودا مقارنة بالحركات الإسلامية.
أما الاتجاه الثاني فيتمثل ببعض مراكز داخل المجتمع المدني العربي، تعتمد في نشاطها ودورها على التمويل الأجنبي بالدرجة الأولى، وينحصر دورها وتأثيرها على أفرادها، وفي حدود قاعات المكاتب والفنادق التي تمارس فيها نشاطها. ولا تقوم بأي دور اجتماعي فاعل ولا تشتبك مع النظم السياسية من أجل قضية الإصلاح. ومشكلة هذه المراكز تكمن في صورتها المتضخمة في الخارج قياسا بدورها الحقيقي في الداخل. إذ تعتمد على أرقام مبالغ فيها وتضخم من نشاطاتها لتنال مزيدا من الدعم المالي الخارجي.
في هذا السياق، يرصد السيد ولد أباه - في مقالته "محنة الليبراليين العرب"- حالة التيار وأسباب ضعفه. إذ يمتاز خطابه بالضبابية والتبشير ببعض القيم الليبرالية والمدنية، لكن بلغة نقدية صارمة للمجتمعات. وهو ما يمثل قطيعة مع الحركة الليبرالية العربية الأولى - في بواكير القرن المنصرم- التي قدمت للمجتمعات مشروعا فكريا متكاملا واشتبكت مع الأفكار والثقافة العربية، وطرحت نفسها في الساحة السياسية من خلال نخبة من الأكاديميين والمفكرين والسياسيين والمثقفين، والذين مثلوا بحق لفترة طويلة رموزا للحركة الوطنية العربية، سواء في شقها الفكري أو السياسي؛ كقاسم أمين وسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد وغيرهم.
ولعل الفارق بين بواكير الحركة الليبرالية العربية وبين واقعها اليوم هو أحد مفاتيح تفسير تراجع هذه الحركة، وهو ما يعود بنا إلى السؤال الرئيس: من أين يبدأ الإصلاح الليبرالي؟..
فقد انطلق الخطاب الليبرالي الأول من بنية النص الديني ومن عملية التجديد الفقهي والفكري. ومثّل العلماء والفقهاء والمفكرون الإسلاميون الليبراليون أبرز رواده (جمال الدين الأفغاني، الكواكبي، محمد عبده، ورشيد رضا). وكان هناك حالة من التحالف والتوافق بين الليبرالية المصرية وبين قادة الإصلاح الديني، وخرج رموز الليبرالية من عباءة الإمام محمد عبده.
أما الحركة الليبرالية اليوم فلا تقيم وزنا كبيرا لعملية التجديد والاجتهاد والإصلاح الديني، ويبدو أنها غير مدركة بعد لأهمية الدين ودوره في المجتمعات العربية، وهو ما أدى إلى عدم قدرتها على بناء خطاب أو ممارسة فكرية وسياسية قادرة على النفوذ إلى روح المجتمعات العربية والتأثير في بنيتها الشعورية والفكرية من جهة. وإعادة بناء صيغة العلاقة مع الدين في الاتجاه الذي يخدم تطور المجتمعات العربية باتجاه العقلانية وفض الاشتباك بين طريق العقل والمنطق والواقع وبين المتطلبات الروحية للإنسان العربي المسلم من جهة أخرى.
ويمكن ملاحظة العلاقة التاريخية والثقافية بين الليبرالية والإصلاح الديني حتى داخل النسق الفكري الأوروبي الحديث، إذ نشأت الليبرالية الغربية من رحم حركات الإصلاح الديني وعصور التنوير وشقت طريقها فيما بعد إلى المجتمعات الغربية من خلال إعادة قراءة الدين وفق فلسفة وروح جديدة، ما أدى إلى انتشار العقلانية وقيم التسامح والتعددية، وفض الاشتباك السلبي بين الدين وتقدم حياة الناس وحرياتهم.
ما يحتاج إليه "الإصلاح الليبرالي" في العالم العربي اليوم هو تقديم مشروع فكري وسياسي متكامل يقدم بديلا للشعوب والمجتمعات العربية عن الحالة القائمة، ويرسم لها ملامح المرحلة القادمة، وأن ينطلق هذا المشروع من داخل البنية الاجتماعية والثقافية، وأن يتصالح مع الدين، ويمارس دورا كفاحيا ضد الاستبداد السياسي، وأن يقدم تضحيات حقيقية في سبيل الإصلاح، كما يحتاج هذا المشروع إلى رموز موثوقة تحظى بالقبول الوطني ولا يُشكُّ في انتمائها وأهدافها ورسالتها الإصلاحية.
m.aburumman@alghad.jo