تحتفل فرنسا هذه الأيام بالذكرى المئوية لقانون التاسع من ديسمبر 1905 الذي يعتبره كثير من المؤرخين النص المؤسس للعلمانية الفرنسية. وعلى الرغم من هذا التوافق على العلمانية في المجتمع الغربي، إلاّ أنّ د. عبد الوهاب المسيري في دراسته الموسوعية (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق 2002) يؤكد أن تعريف العلمانية ما زال موضوعا جدليا تطوريا، يختلف حسب الثقافات والرؤى الفكرية والسياسية الفرعية المختلفة في الغرب.
عربيا، الخلاف حول العلمانية يأخذ بعدا أخطر وأكبر، وتطل "العلمانية" على المجتمعات العربية وعلى أروقة السياسة والفكر كأحد أبرز الموضوعات الجدلية والخلافية منذ عقود. وعلى الرغم من الاختلاف الذي وصل – في بعض الأحيان- إلى أراقة الدماء.
في كتاب المسيري العديد من الملاحظات المهمة والمتميزة، لكن أهم ما يمكن التقاطه - من خلال فصول الكتاب الضخم-هو التمييز بين مستويين للعلمانية؛ "العلمانية الجزئية" التي تفصل الدين عن الدولة أو مؤسسات الدولة عن المؤسسات الدينية. و"العلمانية الكلية" التي تفصل الدين عن مجالات الحياة المختلفة بما فيها الأخلاق والعلوم والفنون. ويرى المسيري أن هناك اتجاها إسلاميا يرى أنه لا تناقض بين "العلمانية الجزئية" والإسلام إذا كانت العلمانية تقتصر على الفصل بين المؤسسات الدينية والسياسية، وهو الأمر الحاصل أصلا في الإسلام من ناحية (أنتم أعلم بشؤون دنياكم). كما أنّ طبيعة الحياة الجديدة المعقدة تقتضي التمايز والفصل بين تخصصات المجالات والمؤسسات المختلفة.
يمكن التمييز كذلك بين نمطين من العلمانية الأول اللاديني (أو ضد الدين) والثاني العلماني المحايد (في العلاقة مع الدين). وفي تطبيق كلا النمطين في العالم العربي نجد أنهما وجدا بدرجات نسبية ومتفاوتة في العقود السابقة. ففي كثير من الدول العربية طبقت "العلمانية القسرية" وسعت كثير من الدول التي اعتبرت نفسها تقدمية إلى اقتلاع أي نفوذ للدين ليس فقط من مؤسسات الدولة وقيمها الحاكمة والثقافة السياسية الرسمية. بل حتى من الحضور الاجتماعي، كما كان عليه الحال في الاتحاد السوفيتي سابقا. بينما تمسكت العديد من "الحكومات المحافظة" على علاقة إيجابية مع الدين وحتى مع الحركات الإسلامية بما يخدم مصالح الانظمة القائمة فيها.
في هذا السياق، يرى المسيري أنه في ظل عدم وجود توافق على تعريف مصطلح العلمانية غربيا، إذ أن العلمانية بمثابة متتالية جدلية، فهذا يعطينا الحق في إعادة تعريف العلمانية. وهذا التعريف الجديد للعلمانية يجب أن يكون فاعلا وممكنا وأن يتلاءم مع النسق الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي، والا يتصادم مع البنية الشعورية. وهنا تكمن الفرصة الحقيقية لبناء صيغة علاقة عميقة صحية بين الإسلام والعلمانية أو "العقلانية" (إذا كان هناك تحسس من قبل كثير من المسلمين لمفهوم العلمانية).
وعملية إعادة تعريف العلمانية يجب أن تأخد بعين الاعتبار العديد من الملاحظات المهمة، وأن تبني على رؤية معرفية معمقة يقدمها نخبة من الفقهاء والعلماء والمثقفين، ما يساهم في بناء مقاربة معرفية حقيقية تجنبنا استنزافا نفسيا وفكريا ما زال قائما منذ عقود في العالم العربي.
إحدى الملاحظات المهمة التي تفرض نفسها على المفكر العربي، والتي تثبتها الأحداث والانتخابات التي تجري في الدول العربية، أن الإسلام مكون رئيس وأن هناك خيارا اجتماعيا شعبيا واضحا بالحفاظ على الهوية الإسلامية (الدينية)، ويزكي ذلك - من زاوية أخرى- فشل التجربة الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي سابقا في إعلان الحرب على الدين، وهي التجربة التي خاضتها بصيغة تاريخية معينة الدول التقدمية العربية.
لكن في موازاة إعادة الاعتبار للدين في المجتمع لا بد من وجود ضمانة الفصل بين المؤسسات السياسية والدينية، وعدم تغول إحدى المؤسستين على الأخرى، وبقاء الشأن الديني في إطار الخيار الذاتي والمجتمعي والقيم الأخلاقية التي تحكم السياسة والمجتمع على السواء، واحترام استقلالية الشأن الروحي عن السياسي مع الاحترام للقيم الإسلامية الأخلاقية في المجتمع في إطار "نسبي" مبني على إدراك معاصر للإسلام.
عملية الفصل بين الجانب السياسي والديني، ليست بدعا في الإسلام أو الخبرة التاريحية للمسلمين، فالشواهد عليها كثيرة. فالمؤرخ المعروف د. رضوان السيد يرى أن الفصل بين المؤسسة الدينية (الفقهية) والسلطة السياسية كان قائما منذ فترة طويلة في التاريخ الإسلامي، وكان الإصرار على عملية الفصل مصدره الفقهاء والعلماء الذين رفضوا المشاركة في السلطة بالمعنى المهني، أو قبول وصاية من السلطة على المؤسسة الدينية. وفي الحالات المعروفة التي كان يتم فيها التداخل كانت تحدث حالة من الإرباك واللغط الشديد. وهو ما أكده لاحقا الإمام محمد عبده في وصفه للسلطة السياسية في الإسلام بإنها سلطة مدنية بوظائف دينية. ما يعني أنها ذات طابع مدني لكن يحترم الدين ولا يعاديه.
ما ميز الفترة السابقة في الخبرة العربية المعاصرة، وجود حالة من الارتباك الواضحة في تعريف العلاقة بين الإسلام والسياسة. والأمر لا يقف عند حدود السلطة، بل حتى الحركات الإسلامية المعاصرة، فقد ولدت تاريخيا كرد فعل على محاولات عزل المسار السياسي عن السياق الإسلامي، وعلى حداثة ملحدة مفزغة. لكن بالغ الإسلاميون في رد الفعل وتحميل الدور السياسي للإسلام ما لا يحتمل، وأغرقوا في الشعارات غير العملية، واقترب وصف الدولة الإسلامية من حالة الدولة الدينية/ الشمولية، وهو ما يلقي بدوره بمخاوف - على الطرف الآخر- من الممارسة السياسية الإسلامية (ضد الآخر الثقافي).
في المحصلة، وضع حزب العدالة والتنمية التركي يده على مقدمة المعادلة المطلوبة بين الإسلام والعلمانية، عندما عرف العلمانية بالتعددية والحرية الدينية والتسامح وأكد أن القرآن في القلب (القيم الأخلاقية والجمالية والاجتماعية الحاكمة). على أي حال نحن بحاجة إلى ممارسة إيمانية راشدة عقلانية تدفع حالة الخصام بين الدين والدنيا بعيدا عن حياة الشعوب العربية.
m.aburumman@alghad.jo