لم تبدأ حالة الفوضى في تفسير الإسلام حديثا. فـ"الصراع على الإسلام" بدأ مع بواكير الخبرة الإسلامية، منذ "الفتنة الكبرى" (موقعة صفين سنة 37 هجرية) وبزوغ فجر الافتراق بين المسلمين إلى فرق ومذاهب وطوائف مختلفة كل منها تدعي أنها الممثل للإسلام الحق، ولكل منها عقائدها الدينية والسياسية. وتكفي إطلالة أولية على التراث الإسلامي لتكشف أن أحد أبرز مصادره الرئيسية هي أدبيات الفرق والطوائف الإسلامية أو ما يسمى بفقه "الملل والنحل"، وهو باب لا غنى عنه في دراسة التراث الإسلامي والتعرف على المدارس العقائدية والفكرية التي ينتمي لها الفقهاء والعلماء الإسلاميون.
الأزمة الإسلامية - إن جاز التعبير- لا تتمثل في الاختلاف في تفسير الإسلام وعلومه المختلفة، فهذا الاختلاف سنة إنسانية لا محيد عنها. لكن الأزمة هي في تحول هذا الاختلاف إلى مصدر من مصادر الفرقة والعداء والولاء والبراء على مر العصور الإسلامية وغياب مضامين الوحدة الإسلامية تحت وطأة الصراع الطائفي والمذهبي الذي اشتبك مع الحياة السياسية الداخلية وصبغها بصبغته، وإن كان السياسيون وأهل السلطة هم من سعى إلى توظيف الخلاف المذهبي لمآرب وأهداف سياسية.
والمفارقة الملفتة - في تاريخ المسلمين- تتمثل في حماية المسلمين لحقوق الأقليات الدينية وتأسيس فقه خاص بهم يكفل التعامل الحضاري معهم. بينما لم يحمِ المسلمون الحق الإسلامي في الاختلاف الداخلي ولم يبنوا إطارا للتسامح الفقهي والسياسي. وبدل أن يكون الاختلاف هو مصدر تنوع وثراء في الخبرة الإسلامية أصبح أحد العوامل الرئيسية في توتر المجتمع المسلم إلى اليوم!
هذا لا يعني أن المذاهب والفرق كانت على الدوام في حالة احتراب ونزاع، إذ كان هناك ظواهر مرموقة من التعايش والتكافل الداخلي، ومحاولات لتجاوز النزاعات المذهبية والطائفية. لكن بقيت هذه "النزعات" تعبر عن أزمة كامنة في الحياة الإسلامية تطل برأسها بين الحين والآخر، وتوظف في كثير من الأحيان لأهداف سياسية. ولم يستطع العلماء المسلمون بناء فقه يجذِّر لقيم التنوع في إطار من الوحدة، وحماية مصالح الناس وحياتهم وصونها بعيدا عن الاختلافات الطائفية والمذهبية.
وتشتد أزمة المجتمع المسلم كلما كان هناك إقحام للاختلافات الفقهية والدينية في الشؤون السياسية. ولعل الحالة الواضحة المعروفة تاريخيا هي "محنة أحمد بن حنبل" واضطهاده عندما حمل الخليفة العباسي المأمون الناس على القبول بمذهب الاعتزال. في المقابل تمثل قصة الإمام مالك بن أنس مع الخليفة "ابو جعفر المنصور" نموذجا متميزا مغايرا في الوعي الإسلامي، إذ أراد المنصور أن يفرض كتاب الإمام مالك "الموطأ" ليكون منهجاً ملزماً للأمة في القضاء والاجتهاد والفتيا، لكن الإمام مالك رفض ذلك بشدة. وقال: "يا أمير المؤمنين: إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار فحدثوا، فعند كل أهل مصر حديث علموه، وكل مصيب". فمالك أدرك أن الاختلاف بين المذاهب والفرق الإسلامية أمر واقع، وأن التعامل الصحيح معه يكمن بالاعتراف به وتحييده عن الصراعات والتوظيفات السياسية.
على العموم، ورثت المجتمعات الإسلامية "ثقافة مأزومة" في النظر إلى مسألة العقائد والمذاهب الإسلامية، لا تمتلك تقاليد راسخة من الاعتراف بحق التنوع والاختلاف. أما في الواقع المعاصر فقد أنتجت الشروط التاريخية والأزمات السياسية الجديدة جماعات وطوائف إسلامية أخرى تزيد من حالة الافتراق والاختلاف وتجدد معاني الصراع على الإسلام، وتستبطن أحكام تلك الثقافة الموروثة في رفض الآخر والتشدد في التعامل مع المخالف.
وعلى الرغم أن "الصراع على الإسلام" بقي كامنا في الثقافة الإسلامية، إلا إنه لم يكن مكشوفا في العقود الأخيرة فيما اصطلح على تسميته بـحقبة الدولة الوطنية (بعد الحرب الباردة). فقد حاولت الدولة الوطنية تجاوز الاختلافات الدينية ضمن مؤسساتها السياسية. إلا أنّ السنوات الأخيرة - التي حملت ازدهار الأصولية الإسلامية ومن ثم احتلال بغداد وظهور علامات واضحة على احتضار الحالة السياسية العربية القائمة- شهدت نكوصا اجتماعيا وسياسيا نحو الانتماءات الطائفية والمذهبية. وأصبحت الطائفية حالة عابرة للأيدولوجيات والأحزاب السياسية العربية، وبدت المنطقة العربية وكأنها تتعرض لغزو طائفي يجتاح مشاعر الناس وأفكارهم!
بالتأكيد هناك عوامل سياسية وتاريخية لعبت دورا كبيرا في تشكُّل الطوائف والفرق الإسلامية، لكننا اليوم أمام أمر واقع يتكون من هذه الفرق والطوائف الكبرى المنتشرة. فإما أن تحكم حياتنا السياسية والثقافية في سياق سلبي يمزق الوحدة الوطنية والاجتماعية داخل القطر الواحد فضلا عن غياب معاني وقيم الوحدة الإسلامية (حالة العراق، باكستان، أندونيسيا، لبنان، إرهاصات في السعودية والبحرين والكويت وعمان وإيران). وإما أن نقر ونعترف بالطوائف والفرق الكبرى، لكن وفق قراءة جديدة تقوم بها كل فرقة لموروثها الديني والفكري والفقهي، وتنزع منه كل العوامل السلبية التي تعزز من ثقافة الاقصاء والاعتداء على الآخر الإسلامي.
نحن بحاجة إلى حركة إصلاح ديني حقيقية في العالم العربي والإسلامي، تبتعد عن لغة المجاملة بين دعاة التقريب والحوار بين الطوائف، وتقوم على بناء ثقافة معاصرة للإسلام ولوظيفته الاجتماعية والحضارية، تستند إلى مقاصده الأخلاقية الإنسانية، وتحتكم إلى قيم التسامح والاعتدال من ناحية. وتؤسس هذه الحركة - من ناحية أخرى- لقانون عام حاكم معتمد بين المذاهب والطوائف المختلفة يعترف بحق الاختلاف وتقنينه في إطار الحرية الدينية والعقائدية، لكن بمعزل عن السياسة، ويؤكد على قداسة الوحدة الاجتماعية والوطنية. والأهم من هذا وذاك توظيف الإسلام سياسيا في إطار تعزيز مقاصد التنمية والوحدة والقوة وعدم الزج به في أتون الصراعات السياسية الداخلية.
m.aburumman@alghad.jo