انشق رجل دمشق القوي - لعقود- عن النظام معلنا رفضه للسياسة السورية في لبنان، مُدِيناً وبقوة الفساد والقمع وكل اشكال وانواع الاضطهاد والذل لنظام كان من ابرز عقوله المدبرة لسنوات يذكرها السوريون واللبنانيون والفلسطينيون ممن كانوا متلقين لسياسة الهيمنة التي كان يمارسها السياسي المتنفذ مدعوما بأجهزة استخباراتية أجادت القمع والتخويف والترهيب.
يريد السيد عبد الحليم خدام من الشعب السوري والشعوب العربية تصديق ان كل شيء كان جيدا الى ان تم ابعاده عن مركز القرار متناسيا سنوات مسؤوليته عن الملف اللبناني وتعامله الفظ مع القيادات اللبنانية والفلسطينية، واستغلاله الموقع السياسي للفساد والافساد.
تشخيص خدام للوضع في سورية في معظمه دقيق. لكن شهادته مجروحة فالصحوة "المفاجئة" ليست دلالة على استيقاظ ضمير، بل استباحة فرصة الضغوط المتصاعدة على سورية لينأى بنفسه عن تحمل تبعات اي انهيار محتمل وليتنصل من مسؤولية سياسات اضعفت وطنه وجعلته اكثر عرضة (لـ) وضعفا (امام) الحصار والعزلة المتزايدة.
ان انشقاق خدام هو بحد ذاته ابرز واوضح وجه لحدة المأزق المتفاقم للنظام السوري في ظل حملة اميركية- اسرائيلية لتقويض سورية، وساهمت في ابراز الخلل الداخلي والانقسامات داخل وخارج نظام الحكم.
فالنظام السوري يواجه خطرين كلاهما يساهم في تقوية الآخر: الاول خارجي يتمثل في مخطط اميركي- اسرائيلي معلن لضرب سورية من الداخل والتخلص من عائق اخر امام سياسات الطرفين في المنطقة بعد تقويض العراق، والثاني خطر داخلي نتيجة سياسات متفردة، عزلت النظام عن القوى السياسية التي لاقت مصيرها في السجون والمنفى، وسياسات الوصاية التي كان ابرزها في لبنان، عدا عن الوصاية على القوى الفلسطينية التي فرضت بالترهيب والدم, وان كنا لا ننكر المصالح القومية المشتركة التي اساءت دمشق استعمالها.
نحن لا ننكر الحصار الخارجي، فالولايات المتحدة اعلنت الحرب على سورية رسميا يوم اقرار قانون محاسبة سورية، وكل ادبيات مراكز الابحاث المؤثرة في القرار السياسي في واشنطن تضع في اولويات السياسة الاميركية تقويض "الخطر السوري" ليس من خلال غزو سورية، بل من خلال تقويضها من الداخل. وهناك معلومات من عدة مصادر بحثية واعلامية اميركية تحدثت عن تسلل قوات خاصة وعملاء مخابرات اميركية الى سورية، اذ ان الحرب ابتدأت.
لكن سورية، كما هو الحال لدى كل الدول العربية ومعظم القوى اللبنانية، تعلمت دروسا خاطئة من الغزو الامريكي للعراق! فمن ناحية حاول النظام تخفيف حدة الحملة الاميركية من خلال تعاونه في "الحرب على الارهاب" مع الحكومة الامريكية ما سمي بالقناة الخلفية بين واشنطن ودمشق. وارسل السوريون اشارات حول تنازلات تتعلق بالنزاع العربي- الاسرائيلي، فيما استقوى النظام على المعارضة والاكراد واللبنانيين، فكانت النتيجة ان نجح في توحيد اعدائه وضحاياه معا.
فمن خطأ فرض تجديد الرئاسة اللبنانية، الى التعامل مع الملف اللبناني بعقلية امنية نجحت دمشق بتسهيل تنفيذ شق هام دعا اليه تحالف "المحافظين الجدد والليكود" في واشنطن الى تقويض "يبدأ في لبنان". فليس سرا ان هذا النهج تجسد في تحالف بين المحافظين الجدد والليكود الاسرائيلي واطراف يمينية في لبنان متمثلة في منظمات مثل "لجنة تحرير لبنان", التي تشمل في عضويتها ريتشارد بيرل ودوغلاس فيت واسماء لبنانية يمينية من رؤوس الاموال في المهجر. وساهمت لجنة تحرير لبنان وجمعيات لبنانية يمينية في المهجر، وفي اميركا بالتحديد، وبالتحالف مع اليمين المتشدد في الحكومة الامريكية والكونغرس بصياغة واقرار قانون محاسبة سورية.
لكن الضغوط الاميركية المنظمة والتهديد بفرض حصار اقتصادي لم تكن لتمكن من اضعاف سورية دون اخطاء وخطايا النظام. فالولايات المتحدة واسرائيل تسعى بالاساس الى ضرب سورية سياسيا كامتداد استراتيجي للمقاومة الفلسطينية واللبنانية واضعاف ايران.
اما ادعاءات ودعوات اميركا الى دمقرطة سورية وانهاء "احتلالها" للبنان فهي شعارات تهدف الى حشد دعم داخلي وخارجي، لكنها اصابت وترا حساسا لدى المتضررين من السياسة السورية الذين رأوا في انقلاب المزاج الدولي فرصة للتمرد على دمشق حتى وان ادى ذلك الى الدخول في لعبة اميركية- اسرائيلية خطرة.
فلا يمكن لوم اللبنانيين على غضبهم وفقدان صبرهم؛ إذ تعدت دمشق حدود التحالف الاستراتيجي الى اخضاع اللبنانيين منذ زمن طويل. لكن ذلك - في المقابل- لا يعفي معظم القيادات اللبنانية من مسؤولية مواقفها.
اين كان القادة اللبنانيون طوال العقدين الاخيرين؟ ألم يكونوا يتنافسون على رضى دمشق ليس بحكم الضرورة فحسب، بل لتوثيق وترسيخ مكانتهم السياسية والطائفية وحتى الفردية. وعندما يصف القادة اللبنانيون انفسهم بالمعارضة للرئيس لحود ولسورية ولنظام القمع اللبناني ألم يكونوا في معظمهم جزءا من الحكومات المتعاقبة؟ واذا كانت هناك دعوة حقيقية الى الديمقراطية فلماذا نرى أن حكم الطوائف والعائلات اصبح الطابع الابرز للتحولات السياسية اللبنانية؟
فالقادة السياسيون اللبنانيون يجب ان يتحملوا المسؤوليات عن الماضي والحاضر، وما يتم ارساؤه من اسس يبدو امتدادا لانقسامات وتقسيمات طائفية وعائلية.
بعض التصريحات لبعض القيادات اللبنانية مدفوعة ليس بالغضب والحزن المفهومين فقط، بل بحسابات سياسية خطيرة تعكس قرارا بالدخول في اللعبة الاميركية، كأن الدرس الوحيد الذي تعلمته هذه القيادات من التجربة العراقية لا يتعدى حسابات براغماتية بالتخلي عن العلاقات مع سورية، بعد ان اصبحت دمشق المرشح الثاني للسقوط السياسي، وليس بالضرورة العسكري بعد بغداد.
فاذا كانت دمشق مسؤولة عن سلسلة الاغتيالات الاجرامية، فلماذا يجب ان يكون الثمن مستقبل بلد بأكمله؟ ان تحميل النظام السوري وزر افعاله لا يجب ان يعني دخول لعبة خطيرة سيكون كل من لبنان وسورية ضحاياها.
ثم ما هي مسؤولية الاطراف اللبنانية في الوضع الذي آلت اليه الامور في لبنان؟ فلا نجد اليوم تساؤلات جدية. وبالطبع لا يوجد سياسي من زعماء الاحزاب الرئيسية يتحدى نظام الطوائف والعقلية الطائفية التي تؤمن لبعض القيادات نصيبا من الكعكة السياسية، لكنها تقود لبنان الى مسار تدميري.
هذا التشخيص لا يعني اعفاء أصدقاء دمشق من المسؤولية ان كانوا عربا او لبنانيين. فما فائدة وما مدى صدق شعارات التضامن مع سورية دون مواجهة خطايا سورية؟! فلم تنفع كل رحلات الوفود الى بغداد بانقاذ النظام، فالوقوف امام الضغوط الاميركية لا تكفيه شعارات تتغاضى وتتجاهل الحقائق، فالتضامن مع دمشق هو بالاساس تغطية على القمع. فقمع الشعوب يضعف قدرة المواجهة ولا يقويها!
lamis.andoni@alghad.jo