لقراءة العربية لانشقاق عبد الحليم خدام عن النظام السوري وتصريحاته الخطيرة ذهبت في اتجاهين؛ الأول يدين خدام، ويتهمه بالخيانة والتواطؤ مع الضغوط الأميركية وزيادة المأزق السوري. أما الثاني فيدين النظام السوري، ويرى أن تصريحات خدام تكشف إلى درجة كبيرة حجم المأزق والفشل الذي وصل إليه. لكن الأهم من القراءتين السابقتين قراءة تداعيات موقف خدام على مستقبل سورية في ظل هذه الأزمة الخانقة والحبل الذي يلتف حول عنق البلاد مع مرور الوقت، وأثر ذلك على الحالة العربية بأسرها إذ تسير من سيئ إلى أسوأ في الشهور الأخيرة.
مستقبل سورية اليوم رهن برد فعل النظام وسياساته في المرحلة القادمة، وإدراكه لمستوى الأزمة وتطوراتها بدرجة أولى، وبدور القوى السورية الصاعدة وقدرتها على بناء حركة سياسية مؤثرة بدرجة ثانية.
معالم الرد لم تتضح بعد، فقد استغرق النظام الساعات الأولى - بعد الضربة- في التقاط الأنفاس بحركات استعراضية بائسة مثلت مؤشرا على خطورة الأزمة وحالة الترهل أكثر مما عملت على تعبئة الرأي العام ضد خدام. إذ يعلق أحد الأصدقاء السوريين (المعارضين) على موقف مجلس الشعب بالقول: "كنا في السابق نطالب ببث جلسات المجلس على الهواء، أما الآن فنطالب بإلغائه!".
تداعيات تصريحات خدام ستقوم – بالضرورة- على مستويين خارجي وداخلي. فخارجياً تتجه البوصلة مباشرة إلى تقرير ميليس والضغوط الأميركية على سورية. وإذا استندنا إلى تصريحات خدام التي تكشف عن قراءة القيادة السورية للمتغيرات المحيطة، فإنها تستبعد تماما قيام أميركا بتوجيه ضربة عسكرية لسورية في الظروف الحالية، وهذا صحيح. لكن القيادة تراهن على العراق كورقة رابحة على صعيد التفاوض مع الولايات المتحدة في لبنان وعقد صفقة في هذا السياق.
في هذه القراءة مشكلات كبيرة أبرزها التعامي عن مصلحة لبنان ذاته وأهله وحقهم في السيادة والحرية، والثانية إغفال الدور الأوروبي المتزايد في المنطقة والمعني بدرجة كبيرة بما يحدث في لبنان، والثالثة أن أمام أميركا بدائل متعددة تتجاوز - في هذه المرحلة- العمل العسكري، وإن كانت لا تستبعده على المستوى الاستراتيجي بعيد الأمد، كالضغوط الاقتصادية والسياسية والحصار الدولي. والخطأ الذي وقعت فيه القيادة السورية - سابقا- أنها تصورت إمكانية التحالف مع أوروبا في مواجهة أميركا، لتكتشف بخاصة مع التجربة اللبنانية والقرار 1559 أنّ أوروبا ليست ندا لأميركا، إنما شريك منافس أو مضارب لها في المنطقة، وأن هناك مساحة مشتركة واسعة تجمع مصالح الطرفين.
في هذا السياق يرى نفر من المثقفين والكتاب العرب أن تصريحات خدام ترفد الضغوط الأميركية وتضعف من قوة سورية ودورها الإقليمي، ما يؤثر – في المحصلة- على القوى الفلسطينية وعلى المعادلة في المنطقة بأسرها ويعزز من الموقف الإسرائيلي. لكن هذه القراءة تتجاوز ثلاث ملاحظات رئيسة! الأولى أن الموقف السوري هو - الآن- ضعيف، ومحاصر ليس دوليا بل عربيا، وهناك حملة سياسية لعزل سورية من دول عربية تمثل مفاتيح رئيسة في النظام العربي. فتصور إمكانية قيام سورية بدور فاعل في ظل هذه الشروط الإقليمية هو تصور ضعيف، إن لم نقل، باهت.
الملاحظة الثانية تتمثل بأنّ الذي أدى إلى ضعف سورية وارتهانها إلى الضغوط الأميركية هو أخطاؤها الفادحة، بالدرجة الأولى، وفي مقدمة ذلك ما حدث في لبنان من ممارسات تعكس أجندة ومصالح قوى وليس مصالح وطنية أو قومية. وإذا ما قرأنا الموقف القومي السوري المطلوب (عربيا)! انطلاقا من الخبرة السورية في لبنان فهذه مشكلة كبيرة بحد ذاتها تواجه من ينادون بمساندة القلعة السورية الصامدة. كما يمكن أن تنطبق هذه الملاحظة على "منطق الوصاية" الذي تمارسه سورية تجاه القوى الفلسطينية المعارضة للتسوية في التعامل معها كأوراق وأدوات لتحقيق المصالح السورية.
أما الملاحظة الثالثة؛ فلا يمكن أن نتصور سياسة خارجية قوية صحيحة في ظل أوضاع داخلية بائسة، وشعب مرعوب مصادرة حريته وحقوقه السياسية، وترهل اقتصادي وفساد سياسي وإداري. ولعل الدرس العراقي - ما زال ماثلا- أمام الجميع، باستثناء المعارضة الأردنية – تحديدا- إذ تتعامى تماما عنه في حجّها إلى دمشق بعد بغداد!
في مقابل زيادة الضغوط وتضييق الخناق تقف دمشق أمام احتمالين؛ إما الاستمرار في الرهان على الأوراق السابقة، ما يزيد حالة العزلة، وينعكس على الوضع الاجتماعي والصراع داخل النظام وأجنحته. وإما السعي إلى عقد "صفقة" مع الولايات المتحدة تقوم على مرونة أكبر في السياسة الخارجية وتقديم تنازلات في القضايا الإقليمية على صعيد العراق وفلسطين ولبنان، وقد كشفت صحيفة الحياة – مؤخرا- عما يسمى بخطة سورية لـ"مرونة مع الخارج وتشدد مع الداخل"!
ما سبق يؤدي بنا إلى التحدي الأهم والأخطر للنظام السوري وهو التحدي الداخلي. والسؤال المطروح في هذا السياق: ما هي تداعيات انشقاق خدام على مسار الإصلاح في سورية؟
في السابق كانت هناك قراءات متعددة لمسار الإصلاح وإمكانياته. وقد شهدت سورية منذ عام 1999 نموا ملحوظا في خطابٍ سياسيٍ معارضٍ استثمر التغييرات التي قام بها حافظ الأسد قبل وفاته، تمهيدا لوراثة ابنه بشار الحكم، كما يرصد رضوان زيادة في كتاب "الإصلاح في سورية". وقد أعطى بشار بدوره محفزا لحركة الإصلاح من خلال ما سمي بـ"خطاب القسم" الذي أكد فيه على أهمية تطوير وتحديث بنى النظام ومواجهة الفساد المستشري والترهل الإداري.
المعارضة الجديدة في عهد بشار أخذت طابعا مختلفا، يستند إلى ظاهرة "المنتديات الثقافية" التي مثّلت ظاهرة مؤثرة -وإن كانت نخبوية- وتمكنت من اكتساب موضع قدم في الإعلام، واتخذت طابع البيانات الصحافية، كما هو الحال في بيان الـ99 مثقفا سوريا الذي صدر في 27 أيلول عام 2000 ونشر في صحف لبنانية.
أحد الأسئلة الرئيسة التي كانت تمثل جدلا كبيرا داخل المعارضة السورية هو سؤال العلاقة مع النظام، فيما إذا كان هناك إمكانية للتصالح أو لصفقة مع التيار الإصلاحي داخل النظام. أم أن الأمر يرتبط بتغيير بنيوي؟ فقد رأى اتجاه من المثقفين أنّ الرئيس بشار لديه ميول ورغبة في الإصلاح. لكن المشكلة تكمن في "الحرس القديم" الذي يعيق الإصلاح ويزرع هواجس لدى الرئيس وعقبات أمام رغبته في تغيير الأوضاع. بينما رفض فريق من المثقفين هذه الرؤية على اعتبار أن إصلاح النظام مطلب مستحيل، نظرا لاستفحال الأمراض والفساد داخل أبنيته، وأنه لا بديل عن تغيير بنيوي، بعيدا عن منطق "الصفقة".
في هذا السياق جاء المؤتمر العاشر لحزب البعث (حزيران العام المنصرم) بمثابة المحك الحقيقي لإمكانية الإصلاح بإرادة النظام ومن داخله. إلاّ أنّ المؤتمر كان مخيبا لآمال المعارضة، والقرار الوحيد الملفت الذي رافق المؤتمر هو إقالة خدام، الذي كان – في الأصل- مبعدا عن دائرة القرار منذ مجيء بشار الأسد. إذن، انتهى طموح الإصلاح البنيوي من الداخل مع مؤتمر البعث، بل وشهدت الفترة التي سبقت المؤتمر وتلته تضييقات واعتقالات على المنتديات ورموز المعارضة. فوصلت المعارضة إلى قناعةٍ بأن ما يريده النظام ليس إصلاحا سياسيا بالمعنى الحقيقي الذي يفتح الباب إلى التعددية الحزبية والحريات العامة وإصلاح الأجهزة الامنية وإنما ما يطلق عليه د. فولكر برتس بـ"تحديث النظام التسلطي".
إلاّ أن تصريحات خدام -في هذا الوقت- تخدم المعارضة وتعطي مصداقية شعبية واجتماعية لخطابها الإصلاحي، ونقدها الدائم لحالة الفساد والسلطوية المستشرية من ناحية. وتؤكد من ناحية أخرى على حالة الفوضى والتآكل التي يعاني منها النظام والصراع البنيوي في المصالح بين القوى الرئيسية في النظام وبين الجيل الجديد والقديم في حزب البعث.
المشكلة الحقيقية التي تواجه المعارضة السورية – كما يرى برهان غليون- تتمثل في نخبويتها وعدم قدرتها على تحريك الطبقة الوسطى لتطالب بمصالحها، واعتماد المعارضة على الرهان على استجابة النظام وعلى البيانات من دون وجود استراتيجية لبناء جبهة شعبية تؤمن أن مصالحها تتحقق في الإصلاح السياسي. على الرغم من ذلك يعترف غليون أن الطبقة الوسطى أصابها التمزق والضعف الشديد وتعرضت للتشويه في العقود السابقة، الأمر الذي يعني أن هناك جهدا كبيرا مطلوبا من المعارضة لبناء جبهة سياسية تمتلك بنية اجتماعية كبيرة وقادرة على إدارة الصراع والتفاوض لانتزاع تنازلات حقيقية وبنيوية من النظام أوعلى الأقل أن تشكل بديلا حقيقيا في حالة السقوط السياسي.
على أي حال سنكون متفائلين لو اعتبرنا أن تصريحات خدام بمثابة الفرصة الأخيرة للنظام ليحمي نفسه من التآكل والانهيار، إذ إنها بالفعل بمثابة "الفرصة بعد الأخيرة". كما أن تصريحات خدام هي فرصة للمعارضة السورية للنزول إلى الشارع وعدم الوقوف عند المنتديات، ولعل المرحلة القادمة, إن أحسنت المعارضة التعامل معها, تسمح بانتزاع إصلاحات حقيقية قبل فوات الأوان على الجميع!
m.aburumman@alghad.jo