قد يبدو الوصف الانسب لتصريحات عبدالحليم خدام التي تدين النظام السوري داخليا وخارجيا على حد سواء، هو أنها كانت بمثابة عملية انتحارية، ضحى فيها خدام بنفسه للإطاحة بذلك النظام. فعندما يتحدث الابن البار لحزب البعث العربي السوري لما يزيد على نصف قرن، التصق خلالها بقمة النظام الذي يتهمه ويدينه اليوم، نائبا للرئيسين السوريين حافظ الأسد وابنه بشار الأسد منذ العام 1984 وحتى العام 2005، يكون الحديث اعترافات وليس تصريحات! فهل أراد السيد خدام فعلا تنفيذ هكذا عملية انتحارية في لحظة صحوة ضمير عارمة؟! بالتأكيد لا.
في البحث عن الدوافع وراء تصريحات أو اعترافات عبدالحليم خدام، دعونا نستبعد بداية تفسير شعور الرجل أنه لم يعد له نصيب من "الكعكة" أو أنه قد تم "شراؤه" من قبل جهة ما؛ ذلك أن ثروة خدام وأولاده التي جناها أثناء وجوده في السلطة تفوق المليار دولار، الأمر الذي يكفيه منطقيا عناء معاداة نظامه. وهكذا، يبدو التفسير الأكثر واقعية، والذي اشار إليه كثيرون ربما، هو إدراك أحد أركان النظام السوري عمق المأزق الذي وصل إليه هذا النظام وتصدعه، وأن الفرصة ربما تكون سانحة ليعود مرة أخرى، إنما بوضع أقوى، مع تغيير متوقع في سورية. ولأجل ذلك، بدت بلاغة النائب السابق للرئيس السوري جلية في حديثه عن أخلاقيات النزاهة ومحاربة الفساد والديمقراطية!
لكن كيف بدا ممكنا بالنسبة لعبدالحليم خدام أن يقدم نفسه بديلا عن النظام السوري الذي كان هو ذاته، وحتى أيام قليلة فقط، أحد أهم رموزه؟ وهل يتوقع خدام فعلا قبولا غربيا، أميركيا وفرنسيا تحديدا، على هذا الصعيد، هذا إذا لم تكن خطوته كلها قد تمت بترتيب مسبق مع القوى الدولية الفاعلة في منطقتنا؟
يمكن اعتبار الفصل الأخير من فصول تداعيات الازمة السورية، ممثلا باعترافات عبدالحليم خدام، صورة نموذجية ومثالية للعقبة الكأداء التي اعترضت وتعترض أي تغيير في سورية (كما في بلدان أخرى عربية)، وهي "أزمة البديل الوطني الديمقراطي"، الممتلك لبرنامج عمل حقيقي وواقعي، قادر على تعبئة البيئة الداخلية باتجاه تغيير وطني، وقادر في ذات الوقت على إيجاد قبول ودعم خارجيين.
فبغياب البديل أو التخوف منه (أي الحركة الإسلامية في سورية)، مع إصرار الرئيس الأميركي في الوقت ذاته على عدم التعاطي مع القيادة السورية، واعتباره الرئيس السوري بشار الاسد ياسر عرفات آخر، كل ذلك كان يقود منطقيا إلى استنتاج أن الولايات المتحدة تفضل "انقلاب قصر"، أو هي تعمل بهذا الاتجاه. وهكذا، يمكن فهم انشقاق عبدالحليم خدام كأحد مراحل هذا الانقلاب المقبول أميركيا! فهل أصبح هذا الاخير – أو حتى غيره من الصف الأول أو الثاني في حزب البعث- هو البديل الديمقراطي السوري؟!
الولايات المتحدة كانت دوما صريحة فيما يتعلق بمطالبها المتعلقة بالنظام السوري، والتي يمكن اختصارها بتغيير سلوك النظام لا بتغيير النظام ذاته؛ أما التغيير المطلوب في السلوك فهو على الصعيد الخارجي وليس على الصعيد الداخلي إطلاقا. ومن ثم، وحتى إذا ما نجح انقلاب قصر ما فإن النتيجة المنطقية ستكون أن النظام السوري إنما يجدد وجوها وأسماء، بما فيها اسم "البعث"، في ظل ذات الثقافة والممارسة الراسخة منذ ما يقترب من أربعة عقود، بحيث يستحق هذا الوضع التشبيه بطائر العنقاء الاسطوري الذي يلتف على نفسه ويحترق، لكنه سرعان ما يعود ليخرج مرة أخرى من الرماد!
كتب أحد المحللين السوريين غداة تصريحات عبدالحليم خدام: "يجلس قادة المعارضة السورية بارتياح بعيداً عن الضوء يراقبون التفكك الحاصل في هذا النظام الذي طال عمره حتى ظن كثيرون أنه عصيّ على التغيير"، لكن الحقيقة أن كل ما يجري الآن في سورية هو تعبير عن أزمة سلطة وأزمة معارضة على حد سواء، وهو تعبير بالتالي عن أزمة الوطن سورية ككل.
manar.rashwani@alghad.jo