شارون وما بعدهالجمعة 6/1/2006 لميس اندوني- "الغد" الاردنية
رحيل شارون عن المسرح السياسي سيحدث زعزعة في الخريطة السياسية الاسرائيلية، لكن الخط الذي تبناه سوف يظل هو جوهر السياسة الاسرائيلية القادمة. والاهم من ذلك ان شارون في سنواته الاخيرة، وحتى في رحيله، استطاع ان يجعل من سياسته مقياسا عالميا لمفهومي "الاعتدال" و"عملية السلام" في السياسة العالمية. شارون الذي كان رمزا للعدوانية والمجازر استطاع تحويل نفسه الى "رجل السلام والاعتدال" في نظر الحكومات الغربية، نتيجة لضعف الوضع العربي، والاتجاه العالمي نحو اليمين السياسي، ومنذ أن اعطت عملية أوسلو اسرائيل اليد العليا، واحيانا الوحيدة، بفرض أسس ما يسمى بـ"السلام" بين الفلسطينيين والاسرائيليين. لكن لنعد الى الوراء قليلا، ونتابع خطوات اعادة شارون لتشكيل شخصيته العامة وسمعته السياسية، فقد أدى ذلك إلى نجاح غير متوقع في العالم. وتغير شارون له اسباب اخرى تتعلق بالانتفاضة الفلسطينية والاجماع الدولي حول التسوية السياسية؛ اذ أدرك شارون أن الحفاظ على الفكرة الصهيونية لا يتحقق الا في دخول "العملية السلمية" على طريقته. فشارون لم يؤمن، حتى النهاية، بعملية المفاوضات نفسها، وإنما بفرض الامر الواقع من خلال سياسة أمنية قاسية تجهض الانتفاضة الشعبية وتجعل الثمن باهظا للانسان الفلسطيني. ان جوهر سياسة شارون يختلف في نواح مهمة عن كل الحكومات السابقة. فصحيح أن كل الحكومات الاسرائيلية (من عمل وليكود) كانت تتعامل منذ بداية مفاوضات اوسلو مع الانسحاب او بتعبير أدق اعادة انتشار الجيش الاسرائيلي، على انها ممارسة سيادية اسرائيلية، وليس انسحابا من اراض محتلة واعترافا بحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير، لكن كانت تفعل ذلك من خلال عملية المفاوضات. أما شارون فجعل سياسة "الأمر الواقع" تحكم النتيجة الفعلية دون أن يأبه بعملية المفاوضات. التطورات التي ساعدت على تبوؤ شارون عرش "الاعتدال الاسرائيلي"! كانت حقبة ايهود باراك الذي هزمه شارون في انتخابات عام 2002، بالأخص ما يسمى عرض كامب ديفيد 2 واقتراح باراك إقامة الجدار العازل. فباراك حقق سبقا عالميا في فرض اطار اسرائيلي أحادي، وإن كان قد جاء في سياق المفاوضات كمرجعية رئيسية لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. وباراك فرض تجزئة الضفة الغربية وضم المستوطنات كأساس للحل، ثم جاء شارون واخذ بنفس المبدأ، وفرض تدريجيا الحل أحادي الجانب دون انتظار توقيع أي زعيم فلسطيني. كما استفاد شارون من البعد الامني في تفكير باراك، وأكثر تحديدا فكرة بناء الجدار العازل الذي لم يروج له باراك فحسب، لكنه كان النصيحة الاولى التي اعطاها لشارون بعد ان تبوأ الثاني منصب رئاسة الوزراء. عدا عن ذلك فان رغبة باراك في انهاء عرفات سياسيا ودعوته الصريحة الى ذلك خلال حكمه اعطى غطاء غير مسبوق لشارون بتنفيذ حصاره على عرفات وحتى تهديد حياته. اي ان شارون جاء في مناخ سياسي يقبل افكارا متطرفة تحت شعار عملية السلام، بشرط ان يلتزم شارون بالعملية السياسية، ولو شكليا. وكان شارون هو المرشح الاوحد الذي يستطيع فرض سياسات لا تخالف القانون الدولي فحسب ولكن كل شروط عملية السلام واتفاقات اوسلو دون ان يلقى ادانة او حتى استنكارا من قبل الحكومات الدولية. وفجأة اصبح شارون رمز العملية السياسية مما خلط الاوراق داخل الحزبين الرئيسيين، وسارع في تفكيك حزب العمل. وبتبني شارون الانسحاب الاحادي الجانب من غزة، وان كان هذا الانسحاب لا ينهي السيطرة على القطاع، ظهر شارون في صورة بطل التنازلات، ورجل الدبلوماسية. لا شك هنا ان قبول شارون بمبدأ الانسحاب هو انجاز الانتفاضة الفلسطينية ومقاومة الشعب الفلسطيني الذي اجبر الزعماء الاسرائيليين على التخلي عن ارض يعتبرونها جزءا من الوطن الموعود، وان كانت تبقى تحت السيادة الاسرائيلية. لكن شارون كان يعتبر المفاوضات مع الفلسطينيين وحتى اعطاءهم "الحق الشكلي" بالمشاركة في تقرير مصيرهم تنازلا جوهريا ومساومة خطيرة على الفكرة الصهيونية، التي لا تعترف بسيادة الشعب الفلسطيني على اي جزء من ارضه. العالم حكم على شارون ظاهريا، فمعظم الدول الغربية، وبالاخص الولايات المتحدة تعتبر ان اسرائيل تتنازل عن حقوقها للفلسطينيين وليس العكس. وتحول الاجماع في الولايات المتحدة حول اسرائيل الى اجماع غير مسبوق حول شارون، وان كانت بعض عناصر المحافظين الجدد والصهاينة المتطرفين تفضل نتنياهو على شارون. لكن هذه التحولات التي ادت الى اظهار شارون كرجل السلام غصبا ورغما عن واقع سياسته على الارض كانت الشعرة الاخيرة التي قسمت ظهر البعير. فعانى حزب العمل من اخطر انقساماته، اذ بدا شارون وكأنه الزعيم المناسب للامن والسلام معا. فلم يبق ما يميز حزب العمل في الساحة الاسرائيلية بخاصة وان قيادته كانت تخطو الى اليمين، فأتاح ذلك لشارون فرصة تاريخية بان يغير هويته السياسية، ويلبس قناع المعتدل بعد ان اصبح التطرف شكلا للاعتدال في السياسة الاسرائيلية. تأسيس شارون لحزب كاديما شكل ضربة سياسية جديدة لصالح اسرائيل تفوقت على ضربة باراك في كامب ديفيد 2 قالبة جميع الاعتبارات الدولية، فيما يخص عملية السلام، وهي اعتبارات سيئة في اصلها. اخيرا ماذا يعني ذلك بعد غياب شارون السياسي المفاجئ؟ على المستوى الاسرائيلي فمن الصعب التكهن بمستقبل حزب كاديما بخاصة ان قوته كانت تعتمد على شخصية شارون، لكن من المتوقع ان تتنافس معظم القوى السياسية على تركة شارون السياسية والعالمية. ويحاول كل من الحزبين استرداد موقعهما مستفيدا من حالة الضعف في حزب كاديما. لكن من الصعب على الحزبين الافلات من التأييد العالمي للافكار التي طرحها شارون والتي يتوقع لها الاستمرار ليس لعظمتها وفتحها افاقا للسلام، بل لان الكثيرين في اسرائيل يرون في افكاره حلا يضمن لهم احتراما عالميا، تؤمنه القوة الاميركية بالأساس، متأملين بأن ذلك سيكون بالانفصال القسري العنصري وقتل الفلسطينيين عن بعد. المجتمع الاسرائيلي، وان كان يتحدث عن دولتين، لا يزال يرفض مواجهة الاشكالية الصهيونية، وان كان الشعب الفلسطيني قد جعل هذه المواجهة اكثر قربا. ولكن شارون استطاع ان يقدم الحلول المفروضة بالقوة لتحدث مثل هذه المواجهة التاريخية لجذور هذه المشكلة الحقيقية. في المقابل، فإن ما يسمى بمبادئ شارون، ستجعل حياة الفلسطينيين اكثر صعوبة في الامد القريب؛ فبعد ان كان الفلسطينيون يحاولون فضح شارون سيعيشون لفترة ما تحت ثقل ارثه السياسي والمطبق على الارض، اذ سيطلب العالم منهم الالتزام بهذه المبادئ. ولكن لا يعني ذلك بان ما باليد حيلة. ففي نهاية المطاف، الحلول الذي قدمها شارون للشعب الاسرائيلي خاسرة وستصطدم بواقع بقاء الفلسطينيين وفشل اي حل يعتمد على استمرار الاحتلال والتشريد والاقتلاع، فمحاصرة غزة حتى لو خرج الاسرائيليون من محيطها، اذا اخذنا المنطقة العازلة بعين الاعتبار، وضم القدس، وتفتيت الضفة والاستيلاء على كثير من اراضيها، لن يقابل بالسكوت الفلسطيني ولن يحل الاشكالية الصهيونية.
تحضير للطباعة أرسل لصديق - |
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع
الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر
|