أخذ الفلتان الامني في الاراضي الفلسطينية منحى خطيراً، بعد احداث معبر رفح، واتساع رقعته ليشمل تدخلا للمليشيات واستعمالها من قبل المتنفذين والعشائر لتصفية حسابات شخصية وعائلية. والخوف هو ان تؤدي هذه المظاهر الى انفجار حالة من الفوضى خاصة في غزة او احداث تفكك اجتماعي يمس نواحي الحياة الفلسطينية المختلفة.
اكثر ما يثير الانزعاج هو ان معظم هذه المجموعات تابعة لحركة فتح، وحتى بعض افرادها يعملون في الاجهزة الامنية. الاعتقاد السائد في غزة ان جزءا من هذه الصراعات المسلحة يعكس تنافساً بين شخصيات متنفذة في فتح وفي العشائر تهدف الى اظهار عضلاتها عشية الانتخابات الفلسطينية. وهذا يفسر جزئياً عدم قدرة السلطة على ضبط هذه الظاهرة، وتردد بعض السلطات المحلية باتخاذ اجراءات لكبحها، كما أن هناك اسبابا اخرى لهذه الظاهرة يتم استغلالها من اجل مصالح سياسية وشخصية ضيقة.
بداية، فإن عدة حوادث شملت استيلاء على مراكز حكومية من قبل مجموعات من كتائب الاقصى، كانت بالفعل تضم في عضويتها عدداً من مقاتلي الانتفاضة الذين احسوا بالاهمال وانعدام فرص التعليم والعمل امامهم بعد ان تم استنفاذهم خلال ذروة الانتفاضة. الجدير بالذكر هنا ان ظاهرة اهمال المناضلين والمقاتلين ليست بجديدة؛ ففي عام 1993 بعد اتفاق اوسلو وجد الكثيرون من قيادات الشارع الفلسطيني الشباب، الذين كانوا ابطالاً بنظر القيادة والشعب الفلسطيني، انفسهم يصارعون ايجاد سبل للحياة، وتثبيت المكانة السياسية والاجتماعية التي حصلوا عليها ايام الانتفاضة.
وتكرر المشهد ثانية بعدما خفت جذوة الانتفاضة الثانية، مع فارق أن مئات من الشباب الذين يبحثون عن موقع وتقدير وفي الوقت نفسه كانوا يحملون السلاح رمز قوتهم. وبالاضافة الى عسكرة الانتفاضة الثانية، فإن الفرق الآخر يتمثل في الانقسامات غير المسبوقة في حركة فتح داخل الاراضي الفلسطينية، وبروز رؤوس كثيرة بعضها معروف على نطاق واسع، وبعضها يستمد قوته من العشيرة او الثروة. فتداخلت الاعتبارات السياسية وأصبح من الممكن استعمال غضب شباب يحس بالضياع لتنفيذ مآرب شخصية، وتثبيت مواقع سياسية واجتماعية للمتنفذين.
العامل الرئيسي الآخر هو ان كتائب الاقصى منذ ظهورها لم تكن موحدة او مسيطر عليها كلياً، وسهَّل ذلك تشرذمها واستقطابها لشخصيات مناطقية وسياسية حتى من خارج حركة فتح. فبعض الصراعات والاشتباكات لم تكن اكثر من خلافات عائلية، تمت تصفيتها بقوة السلاح، وعدا عن استعمال المسلحين في اعمال تهريب لإثراء بعض الشخصيات القوية.
بالمناسبة، انغماس شباب الانتفاضة في التهريب ليس بالجديد ايضاً! فبعد الانتفاضة الاولى تحول بعض الابطال الى مهربين بامتياز، دليلاً على فشل الواقع في استيعابهم وإعطائهم فرصا لبناء انفسهم ومقدراتهم. وهناك جانب سياسي لا يمكن اغفاله هو تسرب اليأس الى نفوس كثير من الناشطين بعد ان رأوا آلاف المناضلين يقبعون اسرى في سجون الاحتلال، واستمرار السطوة الاسرائيلية حتى بعد الانسحاب من غزة. وتبرز انعكاسات هذا اليأس والاحباط في عمليات الاختطاف للغربيين غير المسبوقة في فلسطين، تأثراً بنماذج الخطف في العراق، ومحاولة للتأثير في القرار السياسي الغربي، وذلك بالمطالبة بإطلاق زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الموجود في سجن فلسطيني تحت رقابة بريطانية. وهذا ما قد يفسر عدم اتخاذ السلطة اجراءات ضد المختطفين الذين حاولوا استعمال هذه الوسيلة المرفوضة لإعلان موقف سياسي.
هذه التداخلات بين السياسة والإجرام وانعدام الاحترام لأمن المواطنين الفلسطينيين، والتنافس البشع بين مركز القوى الفتحاوية هي مؤشرات على بداية تفكيك سياسي واجتماعي يضاعف من تأثير الحصار الاسرائيلي الاقتصادي والسياسي لمدن الضفة وقطاع غزة، ويضعف من تأثير مكانة القوى السياسية الفلسطينية، ومن قدرة المجتمع الفلسطيني على بناء مؤسسات ديمقراطية ووطنية.
من الواضح ان السلطة مترددة في اتخاذ قرار حاسم، فذلك سيثير غضب مراكز القوى الفتحاوية وسيحبط التحالفات العشائرية والاصطفافات الفتحاوية الداخلية الضرورية لانجاح اغلبية فتحاوية في الانتخابات التشريعية التي ما زال مصيرها غير معروف.
فمأزق السلطة هنا، وخاصة قيادة فتح داخل السلطة، يكمن في ان تحركها لفرض النظام قد يؤدي الى صراعات مسلحة اكثر حدة على نطاق واسع، تعمق من الانقسام داخل فتح. لكن حالة الشلل الواضح ايضا سوف تؤدي الى تفاقم واتساع الفلتان الامني. المشكلة هنا ان جهاز القضاء الفلسطيني، وإن تحسن وضعه، إلا أنه يعاني -في بعض المناطق- من سطوة السلاح على حكم القانون.
الحل هو في ضبط استعمال السلاح، وفرض سيادة القانون، لكن هذه الكلمات من السهل لمراقب قولها بعيدا عن الواقع، اذ ان مسألة نزع السلاح تحمل مضامين سياسية بعضها مرفوض من فئات كثيرة، فمثل هذا المطلب يرتبط بالشروط الاميريكية والاسرائيلية بتفكيك البنية التحتية لـ"الارهاب" في المجتمع الفلسطيني، لذلك فإن اي قرار من السلطة بالتعامل مع الفلتان الامني سيفشل اذا فسرت الخطوات أنها تخدم المطالب الاميركية للخلايا المسلحة للمنظمات الفلسطينية.
فبالرغم من اتفاق القاهرة، الذي حدد أطر للعمل المسلح بين أطراف المنظمات الفلسطينية والسلطة، فإن الامور لا تزال غير واضحة، اذ ان هناك اطرافا في السلطة ومع انها قد تستغل المجموعات المسلحة لتحقيق مكاسب سياسية داخل فتح والنظام الفلسطيني فإن نفس هذه الجهات قد تؤيد تنفيذ المطالب الاميركية. اللافت للنظر هنا ان الاجنحة المسلحة لجميع التنظيمات الفلسطينية، بما فيها مجموعة من كتائب شهداء الاقصى، دعت في بيان لها الى ضرورة اتخاذ خطوات لوقف الفلتان الامني.
في سياق الوضع السياسي، وبالاخص الضغوط الاميركية، هناك شكوك لدى بعض قيادات الفصائل وحتى داخل حركة فتح ان انتشار الفلتان الامني هو في جزء منه نتيجة لعملية مدروسة تحركها بعض مراكز القوى في فتح تمهيدا لضرب الاجنحة المقاومة للفصائل الفلسطينية.
لكن هناك اجماعا، في المقابل، بضرورة ان تتخذ القيادة قرارا حاسما لضبط الميليشيات المسلح داخل حركة فتح وتوحيدها وضبط الاجهزة الامنية. وإلا فان المجتمع الفلسطيني سوف يظل ضحية لهذه الظاهرة التي ستقوضه من الداخل وتزيد من استنزافه، والحل يكمن بيد حركة فتح.
lamis.andoni@alghad.jo