إقتصادي إجتماعي
قضايا سياسية عامة
تقارير خاصة
مع الحدث
مقالات الضيوف



غياب شارون لا يغيب برنامجه السياسي

الثلاثاء 10/1/2006
برهوم جرايسي- الطريق الفلسطينية

*تتميز سيرة شارون العسكرية والسياسية بالعواصف التي أحدثها، ففي سبعة اسابيع هزّ الحلبة السياسية ثلاثة مرات وللاخيرة ستكون هزات ارتدادية اكبر *حزب "كديما" الذي اقامه تيتّم قبل ان تطأ قدماه الميدان الواقعي، ومن السابق لأوانه الحديث عن اندثاره *انتخابات في ظل قلاقل لا يمكنها إلا ان تخلف حالة قلاقل جديدة*

لم يكن شكل غياب شارون عن الساحة السياسية الاسرائيلي، وعلى ما يبدو عن الحياة كلها، مختلفا عن سيرة حياة ضابط الفرقة والجنرال والقائد السياسي اريئيل شارون، فخط واحد يربط بين جميع محطات حياته العسكرية والسياسية، وهو خط العواصف، فاينما كان يحط شارون كان يحدث عاصفة ونقاشات وانقسامات من حوله، فهكذا بدأ حياته العسكرية، وبهذا الشكل اقتحم الحياة السياسية، واعتلى في درجاتها، الى ان جاءت لحظته الأخيرة فأحدث عاصفة كبرى، ووضع اسرائيل على مفترق المجهول، من الناحية السياسية الحزبية.

شارون من العسكر الى السياسة

ظهر اريئيل شارون على الساحة، مع بدايات اسرائيل في مطلع سنوات الخمسين من القرن الماضي، فعرف عنه الضابط العسكري المتطرف، الذي شدّ الحبال طوال الوقت الى المواجهة، وقد اجمع الكثير ممن تابعوا سيرة حياة شارون، على انه حين كان ضابطا في الجيش كان يخطط لعمليات اجرامية، وفي كثير من الاحيان كان المسؤولون عنه يرفضون مخططاته، بدعوى انها تجر اسرائيل الى مواجهات ليست معنية بها في تلك الفترة، فكان يخرج من الجلسات غاضبا، ويجر فرقته العسكرية لتنفيذ ما اراده، ومن بينها الكثير من العمليات الدموية الاجرامية.
وفي تلك السنوات اقام شارون واحدة من اكثر الوحدات العسكرية الاسرائيلية شراسة، الفرقة 101، التي ارتكبت الكثير من المجازر، ومن ابرزها في العام 1953، مجزرة قبية، التي تم فيها ذبح قرابة 70 فلسطينيا.
وظلّ شارون ينتظر لسنوات حصوله على رتبة لواء (جنرال)، وواجه رفضا من عدد من كبار ضباط الجيش الاسرائيلي، الى ان تولى رئاسة الاركان في العام 1964، يتسحاق رابين، الذي اصبح لاحقا (في سنوات السبعين) رئيسا للحكومة، وشارك شارون في عدوان حزيران (يونيو) في العام 1967، وكان قائدا لمنطقة الشمال.
وفي اوائل العام 1973 خلع شارون البزة العسكرية، ولم تمض أشهر قليلة حتى طُلب منه مجددا ارتدائها كلواء احتياط، للمشاركة في حرب اكتوبر 1973.
وحين وصل شارون الى الحلبة السياسية في العام 1973، أحدث ضجة كبيرة، ولم يهدأ حتى جمع احزاب اليمين الاسرائيلي من حول حزب "حيروت"، ليشكل حزب "الليكود"، وكان هذا ما مهد لوصول اليمين لأول مرة الى الحكم، بعد 29 عاما من اقامة اسرائيل، وانفراد حزب "مباي" (لاحقا العمل) في الحكم.
واختار شارون في سنوات السبعين الأولى موقعه في يمين الخارطة السياسية، فكان من المبادرين والداعمين للاستيطان في الضفة الغربية، ومن ثم في قطاع غزة وهضبة الجولان المحتلة، وكان في كل موقع سياسي يحتله، حتى في المعارضة، يستغله لدعم الاستيطان، وبلغت ذروة حملات شارون الاستيطانية في سنوات التسعين حين دفع بالجيل الشاب من المستوطنين الى احتلال هضاب الضفة الغربية، في اعقاب اتفاقية اوسلو، لعرقلة أي انسحاب اسرائيلي مستقبلي من الضفة الغربية.
ولم يكن وصول شارون الى رئاسة الحكومة بشكل آخر، فقد جاء على انقاض حكومة أيهود براك التي ساهم في انقراضها على وقع العدوان الاسرائيلي على الضفة الغربية، وكانت سنوات شارون الخمس في رئاسة الحكومة مليئة بالعواصف، ومن ابرزها عاصفة اخلاء مستوطنات قطاع غزة، كغطاء لاستكمال السيطرة على الضفة الغربية.

سبع اسابيع من العواصف الحزبية

قبل سبع اسابيع من وقوعه، أحدث شارون عاصفة في الخارطة الحزبية في اسرائيل، على الرغم من انها كانت متوقعة، ولكن وقعها كان كبيرا، فتشكله حزب "كديما" منشقا عن الليكود، أحدث هزات كبيرة في الأحزاب التقليدية في اسرائيل، وحوّل الليكود الذي بناه شارون بنفسه الى حزب من الدرجة الثالثة، وحوّل شخصيات مركزية في اسرائيل الى رعايا رهنت مستقبلها السياسي وهيبتها امام الشارع بقرار من شارون، الذي انفرد في اقامة الحزب وفي قراراته، ومن ابرز هذه الشخصيات شمعون بيرس، الشخصية الاسرائيلية التاريخية، والجنرال شاؤول موفاز، وغيرهما.
ومنذ البداية كان واضحا اننا امام حزب "الرجل الواحد"، فكل شيء مرتبط به وبمصيره الشخصي قبل السياسي، ولكن لم يتوقع أحد ان يكون الغياب بهذه السرعة، فكان شارون قد مهّد لهذا الغياب، طبعا بشكل لا ارادي، بالجلطة الدماغية التي اصيب بها في منتصف الشهر الماضي، كانون الاول/ ديسمبر، ومنذ ذلك الحين اصبح الحديث أقوى عن احتمال غياب شارون، وما الذي سيحدثه هذا الغياب.
وعلى الرغم من اجواء الترقب، إلا ان وقوع ما كان متوقعا، بمعنى اصابة شارون بجلطة اقوى احدثت هزة سياسية وجرّت الحلبة السياسية الى المصير المجهول، فشارون ليس اول رئيس حكومة اسرائيلية يغيب فجأة عن الحلبة السياسية، وسبقه بذلك رئيسا حكومة، أولهما زعيم "الليكود" التاريخي مناحيم بيغن، الذي غادر الحكم فجأة بسبب حالة الاحباط التي خلفها ممارسات شارون، والحرب العدوانية على لبنان، فمكث في بيته لايام، ومنه بعث بكتاب استقالته واعتزاله الحياة السياسية، ولم يبرح بيته لسنوات.
والثاني كان رئيس الحكومة يتسحاق رابين، الذي تم اغتياله في خريف العام 1995، في ظل حملة تحريض تخللتها دعوات للقتل، وابرز قادة حملة التحريض العنيف والتخوين لرابين، لم يكن سوى اريئيل شارون.
إلا ان غياب بيغن ورابين جاء في اجواء سياسية وبرلمانية لم تحدث أي فراغ، ولم تؤد الى طرح اسئلة قانونية، بينما غياب شارون جاء في ظل حكومة انتقالية، والأهم ان الحزب الحاكم فيها لا يزال حزبا على الورق، ويفتقر للمؤسسات التنظيمية والاعضاء، والفروع الميدانية، والحزب بأكمله مرتبط بقرار شخص، من اصغر تفاصيله الى اكبرها.
ولكن مصير "كديما" سيبقى مجهولا على الاقل حتى الشهر الأخير للانتخابات البرلمانية، فلا شك انه سيبقى على الساحة السياسية، وايضا من دون شك انه لن يبقى في نفس قوته الحالية التي تظهر في استطلاعات الرأي، فهذا الحزب ارتبط بشخص شارون، واستطلاعات الرأي حتى نهاية الشهر الحالي، كانون الثاني/ يناير، ستبقى تعكس حالة الانفعال والتعاطف مع شارون، ولكن التراجع سيبدأ بالظهور كلما اقتربنا الى يوم الانتخابات، وهذا لا يعني بالضرورة ان يتراجع "كديما" عن المركز الأول.
إن مصير "كديما" تحكمه عدة مقومات، ولكن الحسم فيها لا يمكن ان يكون نهائيا في هذه المرحلة، فإذا ظهرت حالة تماسك بين الاسماء الشخصية للحزب فإن هذه ستمنحه القدرة على البقاء حزبا كبيرا، ولكن المشاكل ستظهر بالضرورة حول تشكيلة القائمة للحزب وتدريج الاسماء، فأي من الشخصيات البارزة ما كان يتجرأ على معارضة "صاحب البيت"، شارون، أما اليوم وبغيابه، فإن الكثيرين يرون بأنفسهم لا اقل من الآخرين، وكل واحد من الاسماء البارزة سيطرح ورقة مزاعمه بأنه الاقوى، وهذا النقاش لن يحسم بزعامة القائمة التي على ما يبدو ستكون من نصيب أيهود اولمرت، بل سيحتدم الصراع على المركز الثاني، وعلى الخمسة الاوائل، ومن ثم على العشرة الأوائل، فلا يوجد ما يقنع شمعون بيرس، مثلا، ان يبقى في المركز السابع حسب التدريج الذي أعده شارون، بناء على تسريبات صحفية سابقة.

انتخابات في ظل قلاقل

لساعات قليلة، بعد اصابة شارون، ظهر على الساحة السياسية سؤال احتمال تأجيل الانتخابات البرلمانية الى ما بعد الثامن والعشرين من شهر آذار (مارس) القادم، إلا أن الأمر حسم قانونيا، ولكن ما هو واضح ان هذه الانتخابات ستجري في ظروف غير طبيعية، وفي مرحلة عدم ثبات حزبي، ليكرّس الحالة التي شهدتها الحلبة السياسية في العام 2003.
وفي هذه الحالة فإن الناخب الاسرائيلي سيتوجه الى صناديق الانتخابات من دون وضوح رؤية حزبية وسياسية، ولهذا فإنه على الاغلب سيلجأ الى الخطابات الوسطية، التي بامكانها ان تحرك الدفة في كل اتجاه، الى اليمين واليسار، على شاكلة حزب شينوي، الذي لا تزال استطلاعات الرأي تتنبأ له اضمحلالا الى درجة الغياب الكامل عن الخارطة السياسية، وقد يكون الآن المستفيد الأكبر من أي تراجع في حزب "كديما"، ولكن بشكل محدود، ولن يرد له كافة المقاعد التي خسرها في استطلاعات الرأي، التي تتنبأ هبوطه من 15 مقعدا الى خمسة مقاعد وحتى اقل.
ولهذا فبالامكان القول إن انتخابات تجري في ظل قلاقل لا يمكنها إلا ان تخلف حالة جديدة من القلاقل وعدم الاستقرار، وستدخل في دوامة سياسية جديدة، ستكون لها انعكاسات على العملية السياسية الاسرائيلية الفلسطينية.
إن غياب شارون الآن، لا يعني غياب برنامجه السياسي لأن هذا البرنامج في الجوهر هو الخطوط العريضة لشبه الاجماع الصهيوني في اسرائيل، مع اختلافات وتباينات محدودة هنا وهناك، فمثلا هناك شبه اجماع على مسألة بقاء احتلال القدس، أما الاختلاف ينحصر بأطراف المدينة وضواحيها العربية وليس البلدة القديمة، كما ان هناك اجماعا على رفض حق العودة للاجئين الى مناطق 1948، وشبه الاجماع الأخير هو الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، والاختلاف يدور حول ازاحة خطوط هنا وهناك.
بمعنى آخر ان خطوط شارون العريضة تفسح المجال لجميع الاتجاهات الصهيونية، اليسارية منها واليمينية لتسبح فيها وحتى قبولها والتلويح بها، فهذه المواقف الثلاث جعلها زعيم حزب "العمل" تأشيرة دخول له لأوساط الوسط الصهيوني، واليمين المتمثل ببنيامين نتنياهو لا يطرح ابعد من هذا، وحتى ان هناك من يراهن على انه حتى لو تبنى نتنياهو هذا البرنامج ودخل في عملية مفاوضات، فإنه لن يكون قادرا على تحقيق ما تعتبر اسرائيل انجازات لها بقدر، ما بامكان شارون تحقيقه، وهذا طبعا حسب العقلية الاسرائيلية وما تحلم به.
لقد كانت افضلية شارون امام الشارع الاسرائيلي بزعم اثباته انه قادر على فعل ما يخطط له، والمقصود هنا اخلاء مستوطنات قطاع غزة، فجميع حكام اسرائيل تقريبا، ارادوا الخروج من القطاع ولكنهم لم يتجرأوا، باستثناء شارون، على الرغم من نوايا شارون المتسترة في اخلاء مستوطنات قطاع غزة، وهذه القدرة على التنفيذ، حسب الرؤية الاسرائيلية، يحملها معه شارون، ولم يترك مثلها لدى أي من الذين يطمحون لورثته في الزعامة.

تحضير للطباعة
أرسل لصديق -
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع

الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر