رويدا رويدا بدأت الحلبة السياسية في اسرائيل تتأقلم مع حقيقة ان يهود أولمرت هو رئيس الحكومة الفعلي، وإن كان لا يزال بالوكالة، مع استمرار غرق اريئيل شارون في غيبوبته، ما استدعى أن يتم تسليط الضوء في الأيام الأخيرة، من قبل المراقبين والمحللين الإسرائيليين على الهوية السياسية لأولمرت، الذي تتنبأ له استطلاعات الرأي الاستمرار في منصبه بعد الانتخابات البرلمانية القادمة، بوقوفه على رأس حزب "كديما".
أولمرت - الذي شهدناه "متأثرا" في الايام الأولى لتدهور الحالة الصحية لشارون، ويرفض الجلوس على كرسي رئاسة الحكومة- بدأ بالتحرك وفق مقاييس رئيس الحكومة، واليوم الأحد من المفترض ان يعين زميلته في قيادة "كديما" الوزيرة تسيبي ليفني، وزيرة للخارجية بدلا من سلفان شالوم الذي استقال من منصبه بأمر من حزبه "الليكود"، وتعيين ليفني، ليس فقط مجرد تعيين لاحتياجات توازنات سياسية داخل "كديما"، وانما بسبب التقارب السياسي بين الاثنين، حسب ما تتناقله مصادر سياسية واعلامية.
لكن، إلى الآن، لم يفصح أولمرت عن أجندته السياسية المفصلة. في المقابل فإنّ عددا من كبار المحللين السياسيين الاسرائيليين راحوا يجتهدون في ربط الخيوط للكشف عن الهوية السياسية لأولمرت. وقد علّمت التجربة في اسرائيل ان بعض المحللين يعبّرون عما يريد السياسي الحديث عنه لكن ليس بلسانه. ونحن لسنا بعيدين عن هذا الاحتمال فيما نشر حول سياسية أولمرت.
العنوان العريض لما كتبه المحللون، عن أولمرت، انه أقرب من شارون باتجاه الحل الدائم، دون التطرق للتفاصيل، ولكن هذا لا يعني بالضرورة التفاؤل، فالأمر نسبي. ومن المؤكد ان اولمرت، في النهاية، يبقى بعيدا حتى للحد الأدنى الذي يطرحه الفلسطينيون. يقول المحلل السياسي ألوف بن (في صحيفة هآرتس) ان أولمرت "تحدث قبل عامين عن انسحاب أحادي الجانب من الضفة الغربية، الى الخط الجغرافي الذي يسمح لاسرائيل بأغلبية ديمغرافية بنسبة 80% لليهود مقابل 20% للعرب".
والنسبة التي يتحدث عنها الوف بن بالامكان الاحتفاظ بها ايضا من خلال الابقاء على احتلال القدس الشرقية، كما ان هذا لا يعني انسحاب اسرائيل من الكتل الاستيطانية الكبرى.
ويضيف بن في مقالته "إن أولمرت، يؤيد خروج اسرائيل من الاحياء والضواحي العربية في القدس المحتلة، وإلا فإنها ستتعرض لعزلة دولية، ولأغلبية عربية من البحر المتوسط الى نهر الأردن" (فلسطين التاريخية).
ورغم ما قيل هنا فإن أولمرت لن يخرج من دائرة الاجماع الصهيوني الحالية، التي باتت تتلخص في ثلاث نقاط مركزية، اولها رفض مطلق لعودة اللاجئين الفلسطينيين الى مناطق 1948، وان لا يصل تقسيم القدس المحتلة الى البلدة القديمة، واحتفاظ اسرائيل بالكتل الاستيطانية. وقد نشهد الاختلاف النسبي في النقطة الثالثة، بمعنى ان مسألة الكتل مختلف عليها من حيث التعريفات وحجمها، وتضاف اليها مسألة "التعويض" عن الاراضي المقتطعة من الضفة الغربية للاستيطان، بأراض محاذية للضفة الغربية، وهو أمر ظهر لأول مرة في مفاوضات كامب ديفيد في صيف العام 2000، ويطرحه الآن زعيم حزب "العمل" الجديد عمير بيرتس.
ويُجمع المحللون على ان أولمرت، خلافا لشارون، لا يملك الماضي العسكري، الذي يمنحه "الهيبة" العسكرية، التي يحتاجها لفرض مواقف وقرارات على القيادات العسكرية والأمنية، ولهذا فإن المحلل بن، ومثله محلل الشؤون العسكرية في صحيفة هآرتس زئيف شيف، يؤكدان على ان أولمرت سيكون بحاجة للحصول على رضا القادة العسكريين، وموافقتهم على كل ما يطرحه مستقبلا، خاصة حول الانسحابات من الضفة الغربية.
ويقول بن: "على أولمرت ان يوظف كل مؤهلاته السياسية والحزبية ليقنع قادة المؤسسة العسكرية بآرائه، وموافقتهم ضرورية، ففي نهاية الأمر من سيخلي بعض مستوطنات الضفة الغربية سيكون الجنود انفسهم".
ويرى شيف إن العقبة الاساسية التي تقف امام أولمرت هو الفارق الكبير في الخبرة العسكرية بينه وبين سلفه شارون. "فالحكومة بقيت من دون شخص مجرّب وخبير في القضايا الأمنية، فحتى من لا يتفق مع شارون لا يستطيع تجاهل رؤيته الامنية السياسية، وان ينفي انه امام شخص له تجربة ضخمة في العمل الامني السياسي"، وهذا ما يفتقر له أولمرت.
كما اهتمت الصحافة الاسرائيلية بإبراز الطابع السياسي لبيت أولمرت، فهو تقريبا اليميني الوحيد في بيته، فزوجته، عليزا، يسارية ومؤيدة لحركة "السلام الآن" الاسرائيلية، ونجله الاصغر اريئيل رافض للخدمة العسكرية، ويتلقى دروسه الجامعية في السوربون في فرنسا، وله ابنة أخرى أيضا ذات توجهات يسارية وهي محاضرة في الجامعة، وعلى ما يبدو ان مثل هذه التوجهات قد نجدها لدى الابن والابنة الآخرين. وقدّر محللون ان التحولات السياسية لدى أولمرت، على الرغم من محدوديتها، متأثرة قطعا باجواء بيته.
الأمر المتوقع الآن هو ان غياب شارون عن حزب "كديما"، ورئاسة أولمرت للحزب على الرغم من انه من معسكر اليمين، قد يضع "كديما" أكثر في مركز الخارطة السياسية، ويسهّل على اليسار الصهيوني الشراكة مع أولمرت. فعلى الرغم من الهالة التي وضعت حول شارون، ومحاولة اظهاره بلباس "المعتدل"، إلا ان ماضيه العسكري الدموي أبقى حاجز الحذر منه في اوساط اليسار الصهيوني، وقد يزول هذا الحاجز امام أولمرت.
في هذه الايام تواصل استطلاعات الرأي "التعاطف" مع "كديما" نظرا لحالة شارون، وتتأثر بالأجواء الاعلامية، التي لا تزال "تغدق بكرم اعلامي" على أولمرت، الذي لم يسجل حتى الآن أي "غلطة" سياسية او قانونية، بنظر الاسرائيليين، وهو ما اعتبره مختصون نقاط نجاح له. لكن من الصعب تصور ان حزب "كديما" سينجح في تحقيق ما تتنبأ به استطلاعات الرأي الحالية في يوم الانتخابات بعد 72 يوما من الآن، وهذا لعدة عوامل، لا مجال لحصرها الآن.
لكن، في المقابل، أحد السيناريوهات التي بالامكان توقعها هو انه في حالة ازدياد قوة الليكود، عما تتوقع له استطلاعات الرأي اليوم، بحيث يصبح مرشحا لتشكيل الحكومة، فإن حزب "كديما" قد يتحالف مع حزب "العمل" وقوى يسارية أخرى لتشكيل جسم مانع ضد وصول الليكود الى الحكم في الولاية القادمة.
في الخلاصة من السابق لأوانه الحكم على سياسة أولمرت، التي تحكمها عدة عوامل، وليست وجهة نظره الشخصية فقط، فهناك المؤسستان العسكرية والأمنية، اللتان ستكونان اللاعبين الأكبرين في رسم السياسة الاسرائيلية المستقبلية، وقد شهدت هاتان المؤسستان في سنوات حكم اليمين المتقطع في السنوات العشر الأخيرة الكثير من التغييرات الاسمية لتتلاءم مع توجهات اليمين الاسرائيلي. ونضيف الى هذه العوامل موازين القوى الدولية، وتغيرات مستقبلية في الادارة الاميركية خلال ولاية الكنيست القادمة التي من المفترض ان تدوم لاربع سنوات.